ضياع الطريق هو بعدها الأعمق. ذلك الذي رغم أنه يغيب عن أعين الماشين يظلّ حبل خلاصهم، حين يصبح المشي حركة مكرّرة بلا طائل. الضياع هو ذريعة خطواتهم، وإن كان تدافعهم في صفّ طويل ومستقيم يعطي انطباعاً باليقين. عندها تصبح قضبان الحديد المفتولة إلى الأمام هي الدليل الوحيد على أنهم ينتقلون خطوة خطوة أمامنا في «غاليري أجيال» (الحمرا ــ بيروت). تسير كائنات جنان مكي باشو (1947) في مشهدية كبيرة مصنوعة من الحديد والبرونز والخشب (ألواح جدارية) في معرضها الفردي «فصول الهجرة اللامتناهية» الذي يستمرّ حتى 31 آب (أغسطس). في السابق استعادت الفنانة والنحاتة اللبنانية فصولاً وومضات من حياتها الشخصية وماضي المدينة وتبدّلاتها في كولاجات (في معرضيها «تذكار» و«صور طيفية») امتزجت فيها الصور والرسائل والألوان لتعيد وصل ذكريات شخصية وجماعية تتعلق بالمدينة وماضيها ووجوهها. أما اليوم، فالعمل لم يعد يتعلّق بترف الماضي والفترة التي تفصل الفنانة عنه.
فولاذ (أبعاد مختلفة ــ 2018) تصوير: بول هنبيل

إنه محكوم بشاشات اللحظة وكارثة اللجوء المعاصرة. رغم أنها تنقّلت بين الأنماط والأساليب والمواد الفنيّة المختلفة، احتفظت باشو من الكولاجات بالسرد. في معرضها الحالي، تواصل ما بدأته في «حضارة» (2016)، رغم أن عملها النحتي بالحديد يسبق ذلك بعقود. الشظايا التي وصلت إلى منزلها أثناء الاجتياح الإسرائيلي بداية الثمانينيات، صارت مادّة فنيّة اتخذت شكل شجر الأرز، بقيت آثار الكدمات والحرب تظهر على كتلها الحديدية كأنها تختصر الوطن وذاكرته العنيفة. تتعمّد باشو إخبار القصّة ومتتالياتها الطويلة كما تسرّ لنا. والقصّة التي ترويها هنا أقرب إلى فصل ملحمي من فصول هلاك المنطقة والحرب السورية. بدأتها الفنانة بجنود «داعش» قبل ثلاث سنوات، حيث امتلأت غاليري «صالح بركات» بدبابات وسجون ودراجات ناريّة وبرايات السواد التي حلّت على العالم. في تلك السرديةّ/ المشهديّة الأولى، ظهرت قوارب برونزية للهاربين من الحرب. خيار باشو بتخليد اللاجئين، يقضي بثبيتهم بلحظات محدّدة من حيواتهم. فترات يمضونها بالمشي على الطرقات بحثاً عن ملجأ. تحيط باشو السيل البشري الذي تدفّق في اليابسة والبحار في السنوات الفائتة عبر إنجازها كمية كبيرة من الأجساد الحديدية. ليست التفاصيل هي التي تمنح الشخوص وجودها. ننظر إلى تلك الكائنات الحديدية المتشابهة في الغاليري، والتي لا تتجاوز السنتمترات القليلة.

حفر على خشب (36 × 66 سنتم ــ 2019)

نطلّ من فوق على مأساتها ومأساتنا. استعانت باشو بالخردة والحديد، وبقايا السيارات، وطوّعتها على مقاس أجساد تمشي وتتحرّك. تلتقط حركة الأيدي والأقدام واحتكاك الأكتاف، وربّما يتناهى وقعه إلى مسامعنا. فقد استخرجت الحركية من أكثر المواد صلابة وصعوبة في العمل النحتي، أي حركية المشي الذي كان ولا يزال إيقاع اللجوء منذ الأزل. هناك كتل بشرية، عائلات تسير معاً، أطفال يجلسون على الأكتاف، نميّزها بفضل أحجامها، وحين ننظر إلى الأجساد عن قرب، سنتنبّه إلى عناصرها المركّبة: قضبان الحديد من تلك التي تستخدم في البناء، ولفائف معدنية أكثر رقّة للرؤوس والأجساد، وفيها تحافظ الفنانة على ألوانها الأصلية صانعة منها أثواب اللاجئين. إلى جانب الأجساد الطولية، التي تعد سمة أساسية موحّدة، مع اختلافها بين كائن وآخر، فإن أبرز ما يظهر من الكائنات هي الحقائب التي تتراكم مجموعة منها وحدها بجوار الأجساد. تغيّب باشو تفاصيل وملامح شخوصها، كأنها تخلق كائناتها الخاصّة التي تضيع فيها الأعمار والأجناس، لكن ذلك لن ينتقص من إحساسنا بحضورها.
استعانت بالخردة والحديد، وبقايا السيارات، وطوّعتها على مقاس أجساد صغيرة تمشي في قوافل

إذ أن طريقة التشكيل والتركيب والصهر التي تتيح لنا رؤية خيوط العمل، تعطينا انطباعاً بتفكّك وهشاشة هذه الأجساد، معيدة إيانا إلى مأساتها الأولى. لا تتغاضى أعمال باشو عن سؤال أساسي، حول كيفية التعامل مع المأساة البشرية بشكل عام، وخصوصاً ما يترتّب على الفنان لدى لقائه بلحظة الكارثة. سيكون من الطبيعي ألا تسلك الخيار الأسهل لتجسيد هذه المعاناة… كان عليها إذابة الثقل. فعلت ذلك خلال أشهر العمل الطويلة في تلحيم الحديد، ووصل قطعها، وطيّها وتطويعها لكي تصبح الأجساد التي هي عليها الآن. من تلك الفترة تستعيد جنان شرارات النار التي كانت تلمع أمام وجهها وكانت بطريقة أو بأخرى تجرّها إلى العمل المتواصل لإنجاز مئات الدمى الحديدية. من ناحية ثانية، تقدّم أيضاً تماثيل برونزيّة بالحجم نفسه (لا يزيد عن 20 سنتم)، تظهر فيها الأجساد أكثر انصهاراً، والكتل البشرية أكثر تلاحماً في تفاصيل دقيقة تترك لنا انطباعاً أكبر بالرقة وبالهشاشة. رغم لونها الداكن، تبدو مادّة البرونز بطراوة سائل ينهمر. هنا أيضاً تظهّر باشو اللجوء وتختصره بحركة واحدة هي المشي، على جدران الغاليري، عُلّقت ألواح خشبية وبرونزية تظهّر مسيراً واحداً أيضاً، لكنه منفصل إلى قطع متباعدة. صنعت الفنانة هذه الألواح بالحفر (carving) واقتطاع أجزاء كبيرة من الألواح ونحتها، فيما استخدمت الأكواريل على الخشب لتلوين الثياب. بلا شكّ أن هذه الأعمال، تأخذنا إلى ذكرى اللجوء الأقرب جغرافياً وزمنياً، أي اللجوء السوري الذي استلهمت منه الفنانة أعمالها، وقبله ذاكرة الحرب اللبنانية التي عايشتها. لكنه في الوقت نفسه يستدعي مأساة دائمة وثابتة تتمثّل بحالة البشر المجرّدة في توجّههم نحو هلاكهم، كما في المنحوتات البرونزية لقطيع خراف يتبع رجال دين وزعماء سياسيين.

* معرض «فصول الهجرة اللامتناهية» لجنان مكي باشو: حتى 31 آب (أغسطس) ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/345213



«سوريا الآن» في بروكلين


قبل المعرض بأشهر، دعيت جنان باشو نهاية السنة الفائتة، للمشاركة في عدد من أعمالها المعروضة في «أجيال»، ضمن معرض جماعي حمل عنوان Syria, Then and Now: Stories from Refugees a Century Apart في «متحف بروكلين». يستعيد المعرض سنوات طويلة لنمطين من اللجوء في سوريا، منذ بداية القرن العشرين، ويعود إلى الفترة التي استقبلت فيها سوريا لاجئين من روسيا. في المعرض تجاورت آثار أيوبية من القرن الثالث عشر، كان اللاجئون الروس قد عثروا ونقبوا عنها في الرقّة السورية، تجاورت مع أعمال فنية معاصرة حول أزمة اللجوء الحالية من خلال منحوتات جنان مكي باشو، و أعمال الفنانين عصام كرباج ومحمد حافظ.