تناقلت الصفحات الإعلامية والتواصل الاجتماعي أخيراً صور أراجيح وفيديوهات للأطفال يلعبون عليها، بكلمات تكاد توحي بأن اضطهاد وقتل واغتصاب بنات وأبناء أميركا اللاتينية في الولايات المتّحدة وما يعرف بـ «خطاب الكراهية» الذي تتبنّاه مجموعات «سيادة الأبيض» انتهت كلّها، بسبب «تركيب فنّي» هو أراجيح زهرية تمّ تركيبها على الحدود. وبينما يرتمي «ذنب الرجل الأبيض» على تلك الأرجوحة (حتى وإن كان أحد مصمّميها من خلفية لاتينية، فالموقع الطبقي السياسي مفصول عن الهوية)، فهو لا يكفي لموازنة الكفّة مع القتل والاغتصاب والتهجير والإفقار المستمرّ لشعوب أميركا اللاتينية ونهب ثرواتها. في ظلّ علاقات القوّة هذه، ما هي القيمة الفنية - السياسية لهذا التركيب بالذات؟ وما هو الدور السياسي للتركيبات أو التجهيزات الفنية art installations في ظلّ هيمنة النظام الرأسمالي؟
لمدّة أربعين دقيقة، ثبّتت ثلاث أراجيح زهرية من وسطها على جدار الفصل بين منطقتي نيو مكسيكو (الولايات المتحدة الأميركية) وهواريز (المكسيك)، وفي جهة منها مقعد يجلس عليه الأطفال ويرفعون بعضهم البعض. سكِرت الصفحات الإعلامية بهذا الخبر من دون أي مساءلة لمعناه وقيمته الفنية. صانعَا العمل (المعماري رونالد رايل والمعمارية والفنانة فرجينيا سان فراتيلّو) يقولان بأن الهدف منه هو «تقريب الناس من بعضهم من جهتَي الحدود»، وأنه يعبّر عن «الوحدة togetherness والتناغم». وهو بالنسبة إلى اليونيسف «تذكير قوي بأننا متّصلون». وقد توافق الجميع على أنه عمل «رمزي» رائع، وتمّت الإضاءة على «اللحظات الحميمية التي تمّت مشاركتها على الحدود خلال هذا العمل» فيما اعتبره رايل «نقداً لسياسة الهجرة الأميركية في ظلّ الرئيس دونالد ترامب».
السؤال الأول الذي نطرحه في هذا النص هو حول المعنى الفني للتركيب. تعتمد الأرجوحة على نقطة الوسط من أجل التوازن، ونقطة الوسط هنا هو الجدار. كما أنها تعتمد على تقارب وزني الجهتين، أي الجهة الأميركية والجهة المكسيكية. بمعنى آخر، يطرح هذا التركيب مفهوم التوازي والتوازن بين الجهتين اللتين تبدوان إذّذاك متشابهتين كأن لافرق في موازين القوى بين الجهتين. هل هذا ما يقصده صانعا الأراجيح؟ لأن هذا ما يقولانه عبر التركيب الذي يوازي القامع بالمقموع، أي أكبر قوة اقتصادية عسكرية سياسية في العالم مع مجموعة لاجئين يتحمّلون كل أشكال القتل والاضطهاد. يقول رايل بأن التركيب هو «تذكير بأن الأعمال على جهة من الحدود، لها عواقب على الجهة الأخرى» في تماهٍ تامٍ مع الخطاب اليميني القائل بأن العنف الأميركي هو نتيجة طبيعية للهجرة المكسيكية وسرقة المهاجرين لوظائف الأميركيين. كما يستفيض في موازاة الجهتين في سؤاله قائلاً: «ألن يكون رائعاً لو لعب حارس الحدود الأميركي والجندي المكسيكي من الجهة المقابلة على هذه الأراجيح؟»، متناسياً الفارق بين الجنديين، متناسياً الفارق الشاسع بين قوة الدولتين وجيشيهما. بينما يكون الجدار هو نقطة التوازن في هذا التركيب، يكون التوازن أو العدالة الناتجة عنه في الواقع كل أشكال المقاومة التي تقوم وستقوم بها المهاجرات والمهاجرون.

View this post on Instagram

One of the most incredible experiences of my and @vasfsf’s career bringing to life the conceptual drawings of the Teetertotter Wall from 2009 in an event filled with joy, excitement, and togetherness at the borderwall. The wall became a literal fulcrum for U.S. - Mexico relations and children and adults were connected in meaningful ways on both sides with the recognition that the actions that take place on one side have a direct consequence on the other side. Amazing thanks to everyone who made this event possible like Omar Rios @colectivo.chopeke for collaborating with us, the guys at Taller Herrería in #CiudadJuarez for their fine craftsmanship, @anateresafernandez for encouragement and support, and everyone who showed up on both sides including the beautiful families from Colonia Anapra, and @kerrydoyle2010, @kateggreen , @ersela_kripa , @stphn_mllr , @wakawaffles, @chris_inabox and many others (you know who you are). #raelsanfratello #borderwallasarchitecture #teetertotterwall #seesaw #subibaja

A post shared by Ronald Rael (@rrael) on




والسؤال الثاني هو حول أحد المعاني الذي يقول صانعا التركيب بأنه يعبّر عنها: «تقريب الناس من بعضهم» والوحدة. عبر خلق مساحة للأطفال من كلتا الجهتين، يطمح المعماريان إلى تعريف الجهتين على بعضهما البعض وإلغاء المساحات الفاصلة. لكن المشكلة هنا بأن أشكال المحبّة المختلفة والتقارب والحميمية، مستحيلة بين مضطهِد ومضطهَد، هي مستحيلة خارج إطار العدالة. أيظنّ المعماريان بأن ترامب سيحب المكسيكيين إن شارك مثلاً في هذه اللعبة؟ و«تقريب الناس» هذا يكاد يوحي بأن «الناس» هؤلاء بعيدون عن بعضهم البعض لسبب غير معروف، لحجّة إلهية خفية، والحل يكون فقط بلعبة زهرية اللون، «مهضومة» ومسالمة وغير شريرة، تقرّب المبتعدين من بعضهم البعض و«تصفّي القلوب»، كأنّنا نشاهد مسلسلاً لبنانياً ركيكاً، أو فيلماً هوليوودياً لنيكولاس كايدج. فيكون السؤال إذاً بشكل أوضح: هل يتمّ تقريب الناس ببساطة بدعوة أطفالهم للعب مع بعضهم البعض، من دون مساءلة السبب وراء تفرقتهم؟ يقول رايل حول التركيب بأنه خلق «صلة ذات قيمة كبيرة بين الأطفال والبالغين، على الجهتين» من دون أن يسائل سبب قطع هذه الصلة واختلال التوازن الحاصل. هكذا، حتى وهو يقول بأنه يعارض سياسة الهجرة الأميركية، يبدو كأنه يطرح الحل لها بتقارب الناس فقط. بمعنى أنّ أزمة السياسة الأميركية العنصرية الطبقية الظالمة تُحلّ بتبادل المشاعر بين الجهتين والتعارف، في طرح يبدو مشابهاً تماماً للطروحات «السلمية» السائدة بين العدو الصهيوني والفلسطينيين: لو أنّهم يتعرّفون على بعضهم البعض ويتوقفون عن الكراهية، لانتهت الأزمة.
والسؤال الثالث يكون بالنتيجة: أين السياسي؟ أنقارب موضوعاً سياسياً بغير سياسة؟ الموجود في التركيب هو طرح اللاسياسي في السياسي، أي شحذ المشاعر من أجل نسيان ما سبّبها. التركيب الفني هذا يعترف بانتماء المشكلة للحقل السياسي (سياسة الهجرة للحكومة الأميركية)، لكنه يطرح معالجة وقراءة عاطفية ومكانية فقط. لكن المكان أيضاً الذي تمّ اختياره، وهو المكان المعبّأ بالسياسة والقهر، ظلّ خلفية للتركيب الذي لم يتحدّاه أو يتناوله كأزمة. هكذا أخذت الأراجيح الجدار كنقطة توازن، بدلاً من أن تضرب شرعيته عرض الحائط.
هذا الشكل من العمل الفني السياسي، يتناسق تماماً والإنتاج الفني في ظل النظام الرأسمالي، لا يتحدّاه ولا يسمّي الأشياء بأسمائها، بل يكتفي ببناء تركيب هادفٍ إلى ذرف الدموع وإلقاء اللوم على الطبيعة الإنسانية، مذكّراً (من دون أن يوازيه بالسوء) بفيلم «كفرناحوم» لنادين لبكي.
من وجهة النظر الماركسية الكلاسيكية، تنشأ الممارسات الثقافية في حضن ظروف تاريخية، خدمةً لمصالح اقتصادية ــــ اجتماعية. السؤال إذاً هو: من يخدم هذا التركيب الفني أو ذاك، وتحت أي ظروف تاريخية نما؟ يقول دغلاس كيلنر مقارناً القيم الاجتماعية تحت النظام الإقطاعي بتلك المهيمنة في ظل الرأسمالية، بأن قيماً كالشرف والنبل والبسالة والتقوى كانت هي المسيطرة تحت حكم الإقطاع. اليوم تحتلّ الإنسانية والشاعرية والذنب والشفقة (وعواطف أخرى) مكانها لتطيل حكم الطبقة الحاكمة، بدلاً من مساءلة شرعية سلطتها، في عزّ تنامي أزمة الرأسمالية وتوحّشها، مهيمنةً على حركات الرفض وساعية لتخديرها. وهي ـ في إطار القراءة الغرامشية للهيمنة الثقافية ـــ تعتبر أيضاً إحدى أدوات «المجتمع المدني» (ونستخدم هنا المفهوم الغرامشيّ لتعبير «المجتمع المدني» لنعني المؤسسات والمدارس الفنية والثقافية) التي تسهم في شحذ الموافقة consent لاستمرارية حكم البورجوازية. وفي الإطار ذاته، يناقش هنري لوفيبر في نصّه عن السياسات الثقافية الماركسية، قائلاً بأن أحد المفاهيم التي أدخلتها الماركسية على الفن والثقافة هي «الاغتراب»، اغتراب الشخص عن المجتمع وعن العمل، واغتراب الفرد أو المجتمع عن الممارسات الثقافية الفنية كافّة. والاغتراب هذا ليس سوى نتيجة تماهي هذه الممارسات مع النظام المهيمن، ودفع المجتمعات والشعوب باتجاه معاكس لمصلحتها، أو ببساطة تسكين الألم عبر توجيه قراءة المشكلة نحو ما ليس تغييرياً: المشاعر هي الحل، لا السياسة.
تركيب فني يعترف بانتماء المشكلة للحقل السياسي لكنه يطرح معالجة عاطفية له!

«إن أسمى أهداف الفن» يكمل لوفيبر، «ليست بالتعبير ببساطة عن الواقع أو عكسه، ولا باستبداله بالخيال. هذه الوظائف مختزِلة؛ فبينما تستطيع أن تكون جزءاً من وظائف الفن، هي لا تعرّف أسمى مستوياته. إن أسمى أهداف الفن هي بتحويل/ تغيير الواقع metamorphose. إن النشاطات العمليّة تغيّر اليوميّ؛ بينما العمل الفني يحوّله تماماً». السؤال الأخير هو إذاً مقياسنا لمعرفة التموضع السياسي للممارسات الفنية الثقافية: هل تطرح هذه الممارسات تحويل الواقع أم تكتفي باللجوء إلى التعبير عنه وشحذ العواطف؟
في السياق ذاته، وفي الأسبوع الذي تمّ خلاله تركيب هذه الأراجيح، حصلت في ولاية تكساس عمليتا قتل من قبل شخصين يؤمنان بمفهوم «سيادة الأبيض»، موجّهتان ضد أشخاص من خلفية لاتينية، وقد قتلتا أكثر من ثلاثين شخصاً. أنطلب من المهاجرات والمهاجرين اللاتينيين الاكتفاء بذرف الدموع؟
الفن لا ينتج نفسه بنفسه ولا يأتي مستقلاً عن الظروف السياسية المحيطة به، إذ أن «العمليات الثقافية لا تنتمي للبنى التحتية لمجتمع ما. بل تعمل لعكس حقيقة مادية أو التعبير عنها». وبما أن هذا التركيب قد دعم الخطاب المهيمن في صلب طرحه، أكان من ناحية عدم تسييس الحل أو مقاربة الأزمة على مستوى عاطفي، فهو ليس فناً اعتراضياً بل يعمل لتأبيد هيمنة الفكر الرأسمالي، لابساً ثوب الاعتراض. والوعي المطلوب اليوم كما يراه لوفيبر، لإنتاج العمل الثقافي الفني، يتعدّى «أن نناشد الإله، الآلهة أو فكرة العدالة من أجل محاربة الظلم. هذا الوعي وهذه المعرفة ينبعان من تجربة عنيفة للظلم والقمع ومن فهم للفكر الماركسي. ألا يكفي ليكون هذا هو الجانب الأخلاقي السياسي لما نسميّه «ثقافة»»؟، أي أنّ الممارسات الثقافية الفنية تخبئ في جلبابها أكثر من المناشدة والتعبير عن المشاعر، بل تطرح قراءة سياسيةً نابعة من تجربة الظلم. من غير المقبول إذاً أن تلعب الأعمال الفنية على وتر المشاعر إلى حدّ الابتذال، في واقع سياسي اقتصادي أمني محبط وقاهر، بعمى كامل عن السياسي والاقتصادي والأمني. نكتب هذا النقد تحليلاً لتركيب فنّي في الولايات المتّحدة الأميركية، ودرءاً لعمل مماثل على حدود ليست ببعيدة، نأمل ألّا نراه يوماً ولو بأشكال مختلفة.