أقعُ على رسالةِ انتحارٍ كتبَها شابٌ قبلَ لحظاتٍ قليلة من موتِه يكتنفها خطأ صرفيٌّ وثلاثةُ أخطاء نحويّة. أقلّبها مراراً وأفكّر: ما الجدوى من التصويب؟ كتبْتُ مرّةً بعد سماعي خبراً عن حريقٍ أودى بحياةِ أمّ وولدها أنّ الخطأ اللغوي ضروري في تحرير خبرٍ مفجعٍ تقرأه مُذيعةٌ عبر الأثير، للقول إنّ هناكَ خللاً ما (ولو لغويّاً) يحدث في هذا العالم، شيئاً لا يسيرُ على ما يرام. الخطأ في هذه الحالة احتجاج، وقفة، صفعةٌ على وجهِ الموت الملتزم بالقواعد والقوانين والسّاعةِ الرّمليّة. الخطأ اللغوي، هنا، مطلوبٌ ومُستَدعى.
تعيش اللّغةُ كما يراها المدقّق بجسدها، بجسدها فقط. إنّها أعضاء بلا حواس، لا تشعر بغيرها، لا تغصّ، لا تتنحنح، لا يتهدّج صوتُها، لا تربّت على الكتف، لا تلثم على الخدّ ولا تعانقُ بشدّة. مجموعةُ أرقام، لا تبكي أو تعضُّ على جرحٍ أو تضع منديلاً على خصرها لترقص.
اللّغة كما يراها المدقّق أنيقةٌ، حسنة الهندام، لا ترتدي شورتاً أو تنتعل قبقاباً، لا تقع أو تتعثّر بحجرٍ أو تشردُ قليلاً، لا تقبّل أحداً بالخفاء أو تسترقُ سيجارةً أولى، لا تُخرجُ رأسَها من نافذة السيّارة لتصرخَ أو تغنّي، لا تلخبط حساباتِ الحياة وتنتحر. هكذا هي، لا تَخرجُ عن طورها، لا تخلع ثوبَها، مطيعة، تعيش من دون أن تعرفَ طعمَ ارتكاب معصيةٍ ما، أو لذّةَ الوقوعِ في التّجربة.
اللّغة كما يراها المدقّق مستنفرة دائماً لمواجهة العدوّ والتربّصِ به، عابسة، تنتفخ أوداجُها حين تغضب ولا ترمي المُلَح. طاغية، لا تأخذ وتعطي، تجلسُ على كرسيّها وتصدرُ الأوامر: «قلْ ولا تقل»، تسجنُ الكلماتِ في قواقيعِها، داخلَ المعاجم (في بطونها، تخيَّلوا)، فلا تدعها وشأنها ولا تخلي سبيلَها. مسكينة المفردات، تعيش في حزنٍ شديد كرجلٍ حاولَ أن يثبتَ على مدى عمرٍ كاملٍ أنّه مرئيّ. مسكينة. شاة مربوطة بعرقوبها.
اللّغة كما يراها المدقّق تراوحُ مكانها إلى الأبد («تراوح» خطأ شائع؟) لا تسايرُ العصر، فلا تنشئ حساباً لها على فايسبوك أو تلتقط «سيلفي» مع صديقٍ لها أو تختبر تحدّي الـ «كيكي» التّافه أو ترتادُ النّادي الرّياضيّ. لا تقترب من أقرانها، بَرّيّة، منطوية على نفسِها. نعامةٌ تدفن رأسَها في الرّمال.
نحنُ بحاجةٍ لنعيدَ حساباتِنا مع الخطأ اللّغوي ونفتحَ معه صفحةً جديدة. هِدْنة. تسامُح وتصالح ونظرة مختلفة بعد كلّ هذا التّاريخ من العداوة.
أيّها الخطأُ العزيزُ العفويُّ الصّادق، يا صاحِ، اضربْ كفَّك هنا.