مرّ علينا مدراء مهرجانات في العالم لكنّ لم نلتق يوماً برجل يفتح بيته ويطوّع جميع أهله (والدته ووالده وزوجته وإخوته وحتى أصدقائه) لخدمة ضيوف المهرجان والوقوف طيلة أيّامه يلبّون أي طلب ويقومون بكل واجبات الضيافة اللازمة. الحديث عن المحامي وائل صبّاغ، مدير مهرجان «دلبة مشتى الحلو للثقافة والفنون». الاسم آت من اسم شجرة معمّرة تتوسط ساحة القرية. هنا منطلق الحكاية بدءاً من المسرح الخشبي البسيط المبني بأدوات «أيّ كلام» والذي لا يهدأ على مدار اليوم. يعتليه فن متحمّس، من غناء وحفلات موسيقية احترافية لفرق مكرّسة إلى رقص بجميع أشكاله وتعليم فنون استعراضية للأطفال. أما الجمهور، فهو كلّ المارة أو الجالسون على الشرفات المطلّة، أو حتى الراغبون بالتجمّع أمام المسرح. على مقربة من الخشبة البسيطة، درج واصل إلى بيت «أبو وائل»، المكان مزدحم بورشات عمل ومختبرات فن تشكيلي ونحت. مجموعة من النحاتين والتشكيلين الشباب فردوا معدّاتهم وانهمكوا بإنجاز أعمال فردية لصالح المهرجان. كل فنان يتوّج يومه الأخير بلوحة أو منحوتة، وتوزّع الأعمال لتوضع إما في طرقات القرية كما كانت عندما أسس لهذه الحالة الفنان فارس الحلو وكانت حينها فقط «ملتقى للنحت»، أو أنّها ستكون من القطع الصغير، كما هي الحال في هذا الموسم، وستوضع الأعمال ربما في قاعاتها الرسمية ومكتباتها، وكنائسها أيضاً. الدرج يُكمل إلى ورشة خاصة هي مكتبة المهرجان ومشغل للعمل اليدوي والنحت، حيث بدأ الفريق التطوعي بإنشاء مسرح صغير في فسحة الورشة كونها عبارة عن بيت قديم يبهر زائريه للناحية المعمارية، والروحانية الهائلة بسبب الطبيعة الخلابة والهواء النقي. للحظة يمكن لك أن تقف في قمّة «جبل السيدة» تطلّ على كفرون ومشتى الحلو وتقول قَطعاً: «هنا الجنّة»!
بالعودة إلى ساحة الدلبة، فإن الدرج ذاته الذي يصل بين الساحة وورشة الأشغال اليدوية والنحت ومكتبة المهرجان، يمرّ من بيت «أبو وائل» الذي يحيله الحدث مستودع معدّات، وورشة رسم، وفندقاً للضيوف، وكواليس للفرق المشاركة في العروض الراقصة والموسيقية والمسرحية. لكن فجأة نرى في البيت تجمهراً غريباً يتفوّق على باقي المفردات المدهشة. الإعلام يصور بنهم. يخفي تجمع المصوّرين ملامح شخص ما يجلس خلف طاولة! نقترب أكثر فنرى يوسف عبدلكي محاطاً برفاقه ومحبيه ومنهمكاً بإنجاز واحدة من لوحاته التي حالما ينتهي منها، يتلقفها منظمو الملتقى لأنّها تاريخ يضاف. لا يتوقف صاحب الكاريزما الشامية الواضحة عن إلقاء طرائفه! يجرّب أن يمرر آراءه اللاهبة بكل شيء، من خلال سلسلة من الطرائف الملعوبة بذكاء التي لا تقل مهارة عن ريشته العالمية فيما يكتفي رفيقه التشكيلي باسم دحدوح بالمشاركة الوجدانية. لا يرسم في الشارع ولا في الساحات العامة ولا يحضر مزاجه في الصخب. رأيه واضح في هذا الموضوع: «الفن التشكيلي يحتاج إلى هدوء وعزلة حتى يتمكّن الفنان من ترجمة مخيلته بأعلى تركيز ممكن».
ليل الدلبة سيكون هذه الدورة عامراً باستثناء نادراً ما يحصل، هو تظاهرة السينما التي قدّم خلالها حوالي 33 فيلماً شاباً، اجتمع حول تحكيمها كلّ من السينمائيين محمد ملص ومحمد عبد العزيز، والممثلة جيانا عيد. وقد اتفقت غالبية الأسماء المكرسة على عدم جودة الأفلام المشاركة وقصورها عن صوغ وجبة مبهرة توقفت عند حدود المنطق الهاوي الذي يريد أن يصنع فيلماً ويشارك في مهرجان بغض النظر عن القيمة أو الهوية! لكن ربما تستمد التظاهرة قيمتها، من كون العرض جرى في قاعة كنيسة!
السينما ولو كانت بدائية تتسلل إلى دور العبادة! جملة ذهبية لكنها لا تعلق كثيراً في رأس صاحب «أحلام المدينة» الذي لا يعنيه المكان بقدر ما يهجس بأن يبقى الفن السابع حاضراً، ولو على الطريق، وإن كانت الأفلام المشاركة دون المستوى فالجواب عند السينمائي السوري المخضرم: «علينا أن نمنح فرصاً لأن يصور هؤلاء الشباب الحياة في سوريا كما يرونها في عيونهم. يجب إعطاؤهم حق القول لما يريدون ويجب أن نصغي لهم».
لن يكون غريباً على مجموعة من المتطوعين السوريين المسكونين بالحماس والفن والحياة أن ينجزوا مهرجاناً بسيطاً وعفوياً يشبه الطبيعة البكر المحيطة بهم. ولن يؤخذ عليهم الضعف في التنظيم والتنسيق، فالكل يعرف أنّ لا إمكانيات مادية ولا غايات ربحية وراء كلّ ذلك، وأنّ الفوضى في مثل هذا السياق ستكون خلّاقة، ولن يكون غريباً أن يحضر احتفال الختام مسؤول بصفة رسمية كون المهرجان حاصلاً على كلّ الموافقات اللازمة. لكن الغريب أن تعمي المؤسسات الحكومية عيونها عن كلّ هذا الجمال. المكان السياحي المبهر مهمل تماماً، والكنيسة التي تعرض سينما تقطع فيها الكهرباء في الساعة عشرين مرّة، والمواصلات العامة إلى بلد الشجر العالي والهواء النقي شبه معدمة، والإنترنت بـ «القطّارة»! كل ذلك ربما يتوافر في المدن السورية الكبرى، لكن كلّ تلك المدن مع هيئاتها ومؤسساتها لم تعرف أن تنجز مهرجاناً بدفء وعفوية وصدق «مهرجان الدلبة».
المفارقة أن كل الأسماء المكرّسة الحاضرة في المهرجان رددت أمامنا الجملة نفسها: «دعوا هذه التظاهرة الفنية بعيدة عن المؤسسة الرسمية». الكلام يدعّم بشكل التغطية التلفزيونية الرسمية للحدث، إذ أدارت ظهرها لمحمد ملص ويوسف عبدلكي لأنّهما معارضان! واعتذرت عن عدم استضافة مدير المهرجان لأنه يؤدي خدمة العلم الاحتياطية. هذا دليل واضح على منطق التفكير الرسمي في سوريا.