لا يكتب زياد الرحباني قصصاً ولا أغنيات مستقاة من الفضاء الخارجي. لعله الوحيد من يأبى أن يشارك في عبادة عناصر الأغنية القديمة. هذا رجل لا يقدم أعماله باللغات الأخرى، لا يقدمها سوى بلغته. حتى إنه لا يسكن في غرف اللهجة اللبنانية إلا على ما فعل، لا على ما يفعل الآخرون. الرحباني صاحب فلسفة خاصة، لهجة خاصة، أغنية خاصة، موسيقى خاصة، نص خاص. واحدة من خصوصياته اختفاء الاحتجاج الحار، اختفاء الإنكار وهو صفة ملازمة لأشغال زياد الرحباني، إذا ما قدّم النص بدون مواجهة أخطار الإنصات إلى دواخل الحزن العميق في كتابات الهجاء الاحتفالية بنصوص زياد الرحباني. ينكر ما يعبده الجميع، يهجر ما يعبده الجميع. لا علاقة للأمر بالدين ولا بالعلمانية. لا علاقة للأمر سوى برحلات الإحساس بكتابة النقد بالأسلوب الخاص بزياد الرحباني بنصوص زياد الرحباني، ما يفتقده الجميع سواه. نصه جديد، واحد من عناصر الجدة فيه أنه مصبوغ بنكهته (نكهة زياد)، بروحه (روح زياد)، بنفسه (نفس زياد). حين يسلم الرحباني نصوصه المكتوبة على تحطم الآمال والأحلام في الحرب الأهلية، يسحب واحداً من دساتيره في هذه النصوص. يسحب شفاءه من النصوص لكي يقدم النصوص إلى الآخرين، كما يقدم واحد جنته إلى الآخر أو الأخرى، بدون أن يمتلك الآخر الشكوك المدكوكة في النص على لسان الثائر على العائلة والمدينة والسلطة والرذائل القديمة في النصوص القديمة. نص البيانو أهداه الرحباني إلى مقدمة الحفل. قرأت الأخيرة النص بدون تحوير، قرأته بدون وسم. قرأته كما لو أنها تتهجى درساً في كتاب القراءة. لا أفكار الرحباني ولا أحاسيسه. ولا غضبه الهادئ على الأعوام الماضية. كل من قدم النصوص في الحفلات، سواء على الواجهة البحرية أو الواجهات الأخرى، حوَّل النصوص إلى شيء غامض، شيء مرذول. شيء لا يدفع إلا إلى وزن مقدار الأسف على هذه النصوص، لأنها ليست نصوصاً فقط. لأنها جزء من الذاكرة الجمعية لجيل وجد نفسه على المتاريس والكمائن بدل أن يجد نفسه في فراشه. هذه نصوص أمانة، هذه وديعة لا يزال بمقدورها أن تبعث الثقة والحياة بأجيال راوح حضورها بين البطولات العظيمة والأعمال المجيدة والإحباطات والهزائم والموت. تكثف النصوص ضمير مرحلة، لا يخفيها الرحباني وهو يحاذر أن تدق الساعات القديمة بالنصوص. إنها نصوص تتجدد، كلما جرت تأديتها على المنصات أو على المساحات المفتوحة أو المغلقة. يقترف القارئ حين يقرأ، لأن الرحباني وحده يدرك حجم المكتوب. نصوص تسودها السخرية المستترة وراء قناع كثيف من النقد المرير. ذلك عهد لا يملكه إلا صاحب النصوص.
يضيع الرحباني احتجاجه الشخصي/ العام في النصوص حين يمنحها إلى من لا يمتلك مبادئ النصوص. لا كلام على الأعماق بعد لأن الأعماق مؤلفة من كد وعمل وأمل. رسم حياة واسعة بأضيق المساحات. حين يتخلى الرحباني عن النصوص هذه، كأنه يتخلى عن «جهاده». كأنه يتخلى عن الاختلافات المختزلة في النصوص. أدرك المسرحيون الأمر، مسرحيون أناط بهم الرحباني قراءة النصوص لا القصائد، أدركوا أن النص نص بطبقات لأسطح نص يحفظ، من ندى بو فرحات إلى لينا خوري ورضوان حمزة وغيرهم ممن داخلتهم الحيرة وهم يقرأون ما لا يقرأ. وهم يقرأون حياة مكثفة في نص، لا نصاً منظوماً في حياة كما ينظم الناظم العادي نصوصه على الدارج الوطني والدارج المحلي أو على التداخلات العنيفة بين الدارج الوطني والمستدعيات المصرية والتركية.
كل نص حفلة تعذيب للقارئ والسامع. هذه نصوص أُم، كلما قرأها الآخر تذهب روحها بالريح. أبهى النصوص، أينع النصوص، لا يدركها القراء ولا يدركها المستمعون حين لا يدركها القراء. نصوص رشيقة، جزلة، كاتمة لطبقات من العنف لأنّها نصوص نبرة. تفقد النصوص نبرتها حين تخرج من رحم غير رحمها الأصلي. المشاهدون في انتظار النصوص، باللايف أو بالإذاعة لأنها لا تزال قادرة على استطلاع الحالات الراهنة من خلال الحالات الماضية. يتقدم النص ليصم القارئ، ليجد القارئ أن النص وصمه لا وسمه. يخضعه لعقاب مرير، بينما صاحب النصوص يقبع على بعد أمتار من نصه وقارئ نصه/ الضحية. الضحية ضحيتان. الضحية ضحايا، إذا ما تكرر الكلام على اختزال الضمير الجمعي وتكثيف الضمير الجمعي بالنصوص، لجمهور نفيت آماله، غير أنه لم يقرر الرحيل.
لا يمنح زياد الرحباني فرصة إرضاء نفسه القلقة عبر الريسيتالات الحية، لأنه يمارس على نفسه قسوة وخشونة لا يستأهلهما، حين يوزع جزءاً من الثروة الوطنية على من لا يستأهلها. النصوص النثرية ونصوص الأغنيات. لا يعرف كثيرون أن الرحباني لا يهمه أن يتوالى حضوره على خشبة المسرح أمام فكرة توالي حضوره في الريسيتالات لأنه موسيقي أولاً. هذا خيار الرجل. حسم الرجل خياره منذ زمن بعيد. لا أحب أن أجيء بالأخبار الصادمة لأنها ستبدو شديدة الوقع على من يأخذ زياد الرحباني بحضوره العام، حضوره الكلي، كعدم حب الرحباني للمسرح. المسرح غلطة سواه. لا يريد أن يقدم المسرح كخطيئة، على مبادئه الحرة المنحازة لا الأميل، إلى الموسيقى. الرحباني موسيقي وملحن. لا يعرقل اهتماماته الموسيقية ولا اهتمامات الآخرين الموسيقية. حقق ظنونه الأولى في الحرب الأهلية، حين أقام جولاته على الجامعات والمسارح الصغرى في بيروت. لطالما ولَّد أرباع الصوت من بعض الآلات الغربية. توالت خطاباته في هذا المجال، لأنه لا يهدأ وهو يطبع المراحل بطبائعه. جرت حملات تحدٍّ في هذا المجال. عشرات الأغاني والقطع الموسيقية، كل أغنية ومقطوعة كتاج على رأس الملك. أعلم أن صوت زياد الرحباني مات حين مات جوزيف صقر. صوت جوزيف صقر صوت زياد الرحباني. وحين مات صوت زياد، نصح الأخير نفسه بالصمت. إلا أنه لم يستطع أن يصمت، لأن أحداً لا يستطيع أن يوقف تجربة قدمت بغير حساب، بحيث غيرت في الأساليب الكبرى، أسلوب فيروز كمثال. لا يستطيع أحد أن يوقف التجربة حتى صاحب التجربة، لأنها انتصار الجماعة لا انتصار زياد الرحباني. لأن الرحباني قائد ممتاز، إذ لا يرغب بالقيادة. لا يرغب بالعمل السياسي المباشر في الحرب الداخلية الطاحنة، وإذ لا يرغب بمساعدة هذه البلاد العزيزة بخدمتها بإعلان العزم على المباشرة بالعمل على حزب سياسي، حمل الرحباني فيروز من عناد الأغنية الرحبانية القديمة/ أغنية الأخوين إلى أفق برأس لا يخشى أن يحل برأسه ضرر من ما حل بسابقيه. لم يستعمر زياد الرحباني صوت فيروز. هذه علامة كبرى في المسيرة المشتركة بين الرأسين. لذا، أجابت طلباته على الفور أو بعد زمن، لأنها لا تأمر بحرق جثمان أو تحنيطه أو الانطلاق إلى ظن آخر إلا بعد استشارة المستشارين. لم يترك الأخوان رحباني وصية مشتركة. هكذا أبى زياد إلا أن يبدي رأياً في مسيرة الوالدة. لم تقص له شعره ولم يقص لها شعرها، حين قدم لها بعض الشواهد على أن الشراكة بين الاثنين، شراكة لا تدفن ولو أصيبت بالحمى في بعض الفترات، نتيجة خلافات لا علاقة للأغنية بها.
لم يحرم الرحباني الجيل الجديد من مواكبة الابنة الشرعية للمرحلة الماضية، حين وجد الشباب الجدد حنينهم بصوت السيدة بأغنيات زياد الرحباني، في واحدة من المفارقات المدهشة. قفز الرجل فوق قلة استعدادات الشباب، ليقدم فيروز بعينين تشعان بالشباب وهي في السبعين من العمر. صوت في السبعين يرجوه الشباب أن يستمر في تناول إكسير الشباب بأغنيات زياد الرحباني. شحن نجاح الشراكة فيروز، بحيث راحت تغني صنيع زياد مع الآخرين، كـ «ع هدير البوسطة» و«صبحي الجيز»، لأن أغنية الابن، لا تضيق الخناق على الجديد حين لا يعتبر الجديد خصلاً... حين يعتبر أن الأغنية قطف من شجر وطبع ونشر على تفتحات القلوب والعقول. هذه الأغنية ذات اللون، هذه الأغنية المخلوقة على لون زياد الرحباني وحده، يقودها الرحباني إلى حلبات التقتيل. لا أطرح قضية إذ أشير إلى عدم نجاح الرحباني في إخضاع الأغنية ذات النبرة المحلية إلى نبرة أخرى. لم ينجح المغني المصري في ترديد الأغنية بخلقتها الأساسية، لأنّ بوناً شاسعاً بين المرقدين. المرقد اللبناني والمرقد المصري. لا علاقة للكلام بإعلان الحرب على أحد. غير أن حازم شاهين لا يمتلك أسرار السفر في أغنية زياد الرحباني. راح الرجل في حرب من أجل إعلان عدم استقلاله عن أغنية زياد الرحباني. بذل مجهوداً، لا يبذله الأعداء في مواجهة أعدائهم، لكي يصل إلى السخرية المستترة وغير المستترة في أغنية زياد الرحباني. دونه ودون الأمر أكثر من سبيل.
نصوص تسودها السخرية المستترة وراء قناع كثيف من النقد المرير

هكذا، راح يضخم القفلات كي لا يغير فلسفة الأغنية. هكذا، راح يكدّ ويكز وهو يخفي حذره من مواجهة الخطر بغناء الأكثر خصوصية على الصعيد اللبناني بالصوت المتروك بالمدرسة المصرية العظيمة على مدى سنوات وسنوات. ولأنه حاول أن يكتب يومياته بدون نجاح بأغنية زياد الرحباني، اضطر زياد الرحباني إلى تسليم موال واحدة من أغنيات حازم شاهين إلى عازف البزق الملاصق لعازف العود. لا علاقة للنيران الوطنية بالأمر. لا أهتم بالوطنيات، لأنها ديوان اللبنانيين الفاشل. غير أن أغنية زياد الرحباني ليست جمجمة يقدمها تذكاراً لصديق يحتفظ بها تنفيذاً لرغبات صاحب الأغنية. دعاء السباعي لم تبشر لا بالنجاح ولا بالفوز وهي تخضع الأغنيات لإيرادات صوتها المحدود لا إلى تراث الأغنية. لم تظهر الشابة في موسم حصادها، وهي تزيح الأغنيات، أغنية أغنية، عن كتفيها، لأنها وجدت بالأغنيات حملها الثقيل («بكتب إسمك»، «البنت الشلبية»...).
بصوت ليزا سيمون وأغنياتها بعض ما يتمناه زياد الرحباني. حضورها مركب خاص على شاطئ زياد الرحباني. لاح الشاطئ الآخر لزياد الرحباني بالتفريدات والتقسيمات للنحاسيات والغيتار باص والبيانو وبعض أحاديث الكورال من السيدات على وجه الخصوص. لا كلام بعد على «جاز أورينتال» لأن حياة زياد حياة سفر دائم، تحتشد من أجلها الجماهير. بعض الجماهير، يرى أن تراث زياد الرحباني تراث لا اشتراكي يوزع على من يستأهل ومن لا يستأهل. تراث جيل يحترم الاحتراف العظيم لزياد الرحباني، بدون أن يكرس الاحتراف بغير صالح من لا يزالون ينصتون بشكل عميق إلى ما يختزنه تراث الرحباني من انتشارات جمالية طلعت من الحرب لا من الروح الهادئة للحفلات الرحبانية، من يرعاها الجميع حتى قبل أن يراها بعناصرها ويسمعها بساعاتها القليلة.