تُصِرُّ تالين على إكمال المَسِير حتَّى نقطة النهاية عند مطحنة «الرمَّانة» إحدى أبرز مطاحن «وادي الحجير» التاريخيّة التي تنتشر على طول مجرى «النبع» الرئيسي. هو الـ«هايك» الأوّل لها، وهي المرّة الأولى التي تسمع فيها بإسم «الحجير». تسأل بعفوية: «ماما شو يعني حجير، لأنّو في حجارة كتير؟». في العام 2006 لم تكن إبنةُ الأعوام السبعة قد وُلِدت بعد. لم تسمع قبل الآن عن «مَأْثَرَة» المقاومة الخالدة في الوادي التي عجَّلت حينها في إنهاء الحرب لصالح أهل الأرض. على المسار ذاته الذي عبره يوماً رَتَل الدبّابات الإسرائيلية المهزوم، وبين أشجار السنديان والبُطم والزعرور والشَّبْرَق وغيرها، مَشَتْ تالين ومشى عشرات المواطنين قبل أيّــام في «مسير وادي الحجير» الذي نظّمته جمعية «الجنوبيون الخُضر» وهو واحدٌ من سلسلة فعّاليات مماثلة تهدف إلى التعريف بالإرث البيئي والثقافي الجنوبي وحمايته. «نحنُ مَدينون للأشجار هنا، هي غطاء نباتي مفيد وملجأ للمقاومين أيضاً»، يقول حسن زراقط، مدير محميّة «وادي الحجير». يحرص الرجُل، كما في كلّ الزيارات التي تستضيفها المحميّة، على تعريف المشاركين بغِنى النظام البيئي في المنطقة فضلاً عن رمزيّة المواقع والأمكنة التراثية والتاريخيّة على طول محمية وادي الحجير- السلوقي التي تُعدُّ الثانية في لبنان من حيث المساحة (أُنشئَتْ بموجب القانون رقم 121 تاريخ 28-7-2010 وتبلغ مساحتها 26 كلم2 مكوّنة من أراض تابعة لـ20 قرية وبلدة موزَّعة على أقضية مرجعيون والنبطية وبنت جبيل).
()
«كلّ الحكي عن الأخلاق والدين بلا نظافة.. إنسى». تُشير واحدة من اللوحات المثبَّتة على جانبَيْ الطريق الرئيسية وتهدف لتعريف الناس بـ«نظام» المحميّة وإرشادهم للحفاظ على النظافة العامة. يقول أحد المشاركين قادماً من منطقة البقاع لـ«التعرُّف على مناطق لبنانية جديدة»: «نحنُ بحاجة إلى جهد كبير كي نتمكّن من مراكمة وعي بيئي لدى الناس». يتطوَّع ناشطون من «الجنوبيون الخضر» لرفع بعض «المخلّفات» على طريق المسير الفرعيّة الواقعة في خراج بلدتَيْ القنطرة وعدشيت (القصير)، فيما يقوم آخرون، بمشاركة من أعضاء لجنة المحمية، بزرع شجرة باسم الجمعية. يُثمِّن رئيس «الجنوبيون الخضر» هشام يونس الجهود الكبيرة واللافتة التي تقوم بها إدارة محمية وادي الحجير في حماية هذا الإرث الكبير الذي يمثّل مركزاً مهماً للتنوُّع البيولوجي النباتي والحيواني، إضافة إلى ما يمثّله من قيمة تاريخية ثقافية ونضالية منذ ما قبل مؤتمر وادي الحجير الشهير و«الخطاب التأسيسي» للسيد عبد الحسين شرف الدين (1920). يقول يونس: «المحميّة هي مشروع متواصل بدأ مع إعلانه محمية ولم يكتمل بعد. يبدأ عمل المحميّات الفعلي بعد إعلانها كذلك لأن هناك شروطاً يجب العمل على توفيرها مثل تأمين تواصل المساحة فيما بينها». في هذا السياق، يرى يونس «إنَّ الطريق الرئيسي المُعبّد في وسط محمية وادي الحجير يُسهم في تفكيك أواصر النظام البيئي والمساحات الحرجيّة كون الطرقات هي عنصر عدائي دخيل على البريّة والنظام البيئي»، داعياً لإيجاد طريق بديل من الشارع الرئيسي الحالي الذي يتفرّع منه 11 طريقاً فرعيّاً. مسيرُ وادي الحجير-السلوقي شكَّل فرصة لمنظّميه لرفع الصوت وتوجيه نداء لحماية وادي زبقين (قضاء صور) من مشروع شق الطريق «الكارثي» في الوادي والذي ظهر من خلال أعمال الجرف الواسعة مؤخّراً (في أراضي قرية الصالحاني وشملت الطريق الفرعية التي تربطها برامية)، دعوا فيه إلى «حماية هذا الموقع الحيوي والمتميّز والذي يشكّل الذاكرة الحيويّة لجبل عامل وموطن غاباته القديمة ونظام الهضبة العاملية البيئي الأقدم والأكثر تكاملاً، وهو إلى ذلك يشكل رئة المنطقة وخزان مائها الجوفي وأيّ تدمير يلحقه يهدّد باختلال كامل المحيط». في «نداء وادي الحجير-وادي زبقين» الذي تلاه الناشط علي سليمان، دعا الحاضرون «وزارة البيئة إلى تحمل مسؤولياتها في حماية وادي زبقين والعمل على اتخاذ اجراءات إقرار المحميّة المكتمل ملفها لديها وإحالته الى مجلس الوزراء في أقرب فرصة حماية للموقع الفريد». الدعوة ذاتها تضمّنها لاحقاً بيان صادر عن «الجنوبيون الخضر» شرح بالتفصيل لـ«مخطّط» تدمير وادي زبقين بعد وعود سابقة بتجميد العمل بشق الطريق. بيان «الخُضْر» اعتبر «أن كلّ تسويق لمنفعة الطريق بحجة توفير دقائق على أهل بعض القرى هو واهٍ ويحمل الكثير من التدليس على الناس، كون الكلفة البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية المتأتية من تدمير الوادي على المنطقة وأهاليها واستباحته للكسارات والمكبات فضلاً عن أثر ذلك في تدمير الذاكرة الحيوية والتراثية الفريدة للمنطقة هائل ولا يحتمل أي تساهل حياله». وإذ أثنى البيان على موقف بلدية زبقين وأهل البلدة الرافضين لتمرير مشروع الطريق في أرضهم، دعا «كل الغيارى على الحياة البرية في لبنان والجمعيات البيئية وأهل المنطقة» إلى وقفة احتجاجية يوم الأحد في 21 تموز الحالي في بلدة زبقين. إنتهى «مسير وادي الحجير» قبل أيـــام بإعلان «نصرة» وادي زبقين. ثمّة إصرار كبير على عدم التراخي في حماية أبرز مساحات «عاملة» البيئية-التراثية في وجه «الوحش العقاري الزاحف». لم تنتهِ «مسيرة» تالين هي الأُخرى. صار بإمكان إبنة الأعوام السبعة أن تكتب غداً أو بعد غد أو في السَّنوات المقبلة في «موضوع الإنشاء» المدرسي عن حكاية «بُستان جميل» حوَّل «مفخرة الميركافا» الإسرائيلية إلى «نكبة» في ذاكرة جيش العدو، وبالتوازي، عن مسؤولية رفاقها وأبناء جيلها في حماية وحفظ الإرث البيئي والثقافي من الهزيمة أمام «أعداء الطبيعة» في الداخل.