من حيث لم يتوقّع أحد، وبزكزكة واضحة ولو غير مقصودة لمهرجانات الصيف التي تهتم لهذا النمط وهذا الطراز من الفرق، ومن خارج الجاز كلياً أو شبه ذلك، تستقبل بيروت فرقة الروك البديل الإنكليزية الشهيرة Tindersticks بدعوة من… «ليبان جاز»! المهتمّون ـــ اللبنانيون ــــ بالتجارب الموسيقية الغربية على اختلافها (المحترمة والمبتذلة، شعبية كانت أم نخبوية)، واستطراداً، راصدو حركتها تجاهنا، ضمن منظومة المواعيد الموسيقية الحية (مهرجانات دائمة أو موسمية، حفلات مستقلة، احتفالات دورية، نشاطات المراكز الثقافية الأجنبية أو الجامعات،…)، يكوّنون، كلٌّ في مجال ذائقته الخاصة، لائحة ذهنية بالفرق والأسماء التي يرغبون بملاقاتها في عرضٍ حيّ.
عملت «تندرستيكس» في مجال الموسيقى التصويرية، فوضعت موسيقى العديد من الأفلام الروائية

ففي ذلك متعة كبيرة لم تؤثر بها سلباً التغيّرات التي طرأت على صناعة الموسيقى، والتي عطبت أو كنّست الكثير من مفاهيم وأكسسوارات علاقتنا بهذا الفن كفن أو حتى كمنتَج. من بين هؤلاء جمهور الروك البديل في تسعينيات القرن الماضي وما بعد، ومن بين هذه الأسماء «تندرستيكس». إنها بالتأكيد من الفرق التي وضعها محبو هذا النمط في أولوياتهم لناحية الرغبة في أن تدعوها جهة ما إلى لبنان. هذا ما يضعها أيضاً وحكماً، من جهة مقابلة، ضمن أولويات الجهات المنظمة للحفلات، على رأسها المهرجانات الصيفية وأولها «بيبلوس». من هنا تبدو موجعة الضربة التي تلقاها المهرجان الجبيلي لثلاثة أسباب: أولاً، الفرقة تعدّ من «اختصاصه» وجمهورها يعوّل على جهوده في هذا المجال. ثانياً، لم يدعُ المهرجان هذه السنة ما يوازي «تندرستيكس» (أو حتى يمثّل نمطها) في تلبية رغبات روّاده من الشباب. ثالثاً، تأتي الأمسية، زمنياً، في قلب الموسم، أي بعد انطلاق معظم دورات المهرجانات وقبل انتهاء أي منها. بالإضافة إلى ذلك، فإن «ليبان جاز» لا يُفترَض، لو صَرُمَت المعايير، أن ينافس في غير اختصاصه، فهذا الاختصاص مُعلَن من دون لبس: الجاز. لكن من يأبه، مِن الجمهور، لكل هذه التفاصيل؟ من يدعو من، ومن كان يجب أن يدعو من ولم يفعل أو العكس... هذه باتت شكليات من الماضي. فعندما تدعو «مهرجانات بعلبك الدولية» فرقة «مشروع ليلى» ليقف حامد سنّو، تماماً حيث وقف كاريان على رأس «برلين»، ويطلق تصاريح غاية في الانحطاط الأخلاقي (والسذاجة… وهذا أسوأ!) كأنّ الجانب الفنّي وحده لا يكفي لـ«إزعاج» روح المكان الجميلة، لا تعد مسألة العلاقة بين الجهة الداعية والمدعو مهمة. باختصار: بتنا في «أورجي» وفي الـ«أورجي» لا محرّمات.
كل هذا الكلام، الذي يحمل في طيّاته، من جهة، نوعاً من الاحتفاء بالفرقة الضيفة، ومن جهة أخرى، تلميحاً إلى إنجاز تنظيمي يسجَّل لـ«ليبان جاز»، لا يلغي وجود عنصر بات كلاسيكياً في مهنة تنظيم العروض الحية في لبنان هو أن «تندرستيكس» اليوم ليست «تندرستيكس» التسعينيات ومطلع الألفية. بعبارة أخرى، دعوتها اليوم لا تشكّل تحدياً يذكر نسبةً إلى ما قبل عقدَين، عندما كانت الفرقة تنعم بمرحلة تناتش بين المهرجانات حول العالم، بفعل الانتشار الواسع الذي حققته في تلك الحقبة. مع العلم أن هذه التجربة ـ بخلاف العديد من الصرعات التي لا تعرف استمرارية ـ حافظت على حضورها ونتاجها، وبالتالي على متابعيها واحترامهم، خصوصاً أنها نجحت في تقديم عدة ألبومات (بعضها أصدرها مغني الفرقة في تجربته المستقلة والموازية) حافظت فيها على مستواها.
مغني الفرقة، ستيوارت ستابلز، يبدو مزيجاً من أصوات «ثقيلة» في الغناء الغربي، كنيك كايف وليونارد كوهين وجوني كاش


إذاً، بعد أمسيات عدة احترم فيها «ليبان جاز» هدفه الأول في ترويج الجاز، بين السنة الماضية ومطلع هذا العام، ها هو يخرج عن سياسته المفترضة وغير المطبَّقة بشكل منهجي، ويدعو «تندرستيكس» التي تقدّم أمسية وحيدة في 15 تموز (يوليو) الحالي في «ميوزكهول». الفرقة التي تأسست مطلع التسعينيات أرست (واشتهرت بـ) «صوتها» المميّز (خصوصاً عند صدور ألبوم Curtains عام 1997) في عالم البوب ـــ روك الذي كان قد راكم عشرات التجارب على مدى عقود، وبالأخص في السبعينيات والثمانينيات التي شهدت أكثر تيارات الروك تشعباً (نسبةً إلى المصدر وهو «الروك أند رول» بشكل أساسي). هذا «الصوت» يمكن تلخيصه بثلاثة عناصر أساسية:
1) التعويل على خلفية لوتريات كلاسيكية النَفَس، أي الفكرة الموسيقية وتركيبة الجملة وغيرها من العناصر (وهذا حصل في أنماط كثيرة غير الروك، كالجاز والبوسا نوفا على سبيل المثال)..
2) صوت مغني الفرقة، ستيوارت ستابلز، الذي يبدو مزيجاً من عدّة أصوات «ثقيلة» في الغناء الغربي (الأبيض)، أي نيك كايف والراحلَين ليونارد كوهين وجوني كاش (وغيرهم طبعاً، لكن هذا الثلاثي هو أول ما يخطر في البال، هنا، رغم أسلوبه الخاص جداً في الأداء واستخراج الألفاظ.
3) الإبقاء على الطبيعية «العضوية» لهذا «الصوت»، بمعنى آخر، استخدام الآلات التقليدية، في عزّ ازدهار المزج الإلكترو-أكوستيكي الذي شهدته التسعينيات، من تجارب إلكترو-روك وإلكترو-بوب وتريب-هوب (فرق مثل Radiohead وMassive Attack وPortishead وغيرها). أضف إلى هذه الخلطة، جرعة «سايكدَليك» خفيفة، جذبت محبّي هذا التيار في الروك ولمّ تنفّر غير المعجبين به، وكذلك جرعة حزن عالية قليلاً، جذبت شباب الألفية الثالثة… الألفية التي ارتبطت بشكل وثيق بمرض الاكتئاب عالمياً.
إلى جانب ألبوماتها الخاصة وتلك التي أنجزها مغنّوها، عملت «تندرستيكس» بشكل جدّي (كماً ونوعاً) في مجال الموسيقى التصويرية، فوضعت موسيقى العديد من الأفلام الروائية، مع تعاونٍ خاص جمعها بالمخرجة الفرنسية كلير دوني، منذ فيلمها «نينيت وبوني» (1996) حتى «هاي لايف» (2018)، فحملت تارةً توقيع الفرقة وطوراً توقيع ستيوارت ستابلز منفرداً. الأمر الوحيد الذي لم نُشر إليه في القسم الأول من هذه المقالة هو أن لحسن حظ «مهرجانات بيبلوس»، لم تتزامن حفلة «تندرستيكس» مع أي أمسية موجّهة لذات الفئة من الجمهور في دورته الحالية… وإلّا لتحوّلت هذه «الزكزكة» إلى ضربة موجعة.

* Tindersticks: 21:00 مساء 15 تموز (يوليو) ـــ «ميوزكهول» (الواجهة البحرية) ـــ