برعاية وزير الثقافة اللبناني محمد داود، احتضنت المكتبة الوطنية في بيروت أوَّل من أمس احتفال إطلاق مجلّة «المقدسيّة» الصادرة عن «مركز دراسات القدس» في «جامعة القدس» (تنفيذ دار أبعاد ـــ بيروت). المجلة فصلية مختصَّة في شؤون مدينة القدس على المستويات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعيّة والتاريخية والحضارية والقانونية، وهي تسعى ـــ وفق ما يقول المشرفون عليها ـــــ لتكون «صوتاً للقدس وأهلها ومحبيها وتاريخها وإرثها في حقبة تاريخية هي الأشد خطراً على القضية الفلسطينية من خلال المخطّطات الصهيونية».كان يكفي النظر في أسماء ووجوه الحضور المتنوِّع في احتفاليّة مجلة «المقدسيّة» لتعزيز القناعة بأهميّة إطلاق مشاريع ومبادرات ثقافية ـــ فكريّة تقوم على ركيزة فلسطينية ـ لبنانية ـ مصرية كثمرة لهذه الجهود الثلاثية التي كان لها كبير الأثر في رفد العالم العربي وإغنائه بتجارب كثيرة ناجحة على المستويات كافة منذ ما قبل نكبة فلسطين التاريخية. «إنها ساعة معمَّدة بالفرح الشديد»، يقول رئيس تحرير «المقدسية» سعيد أبوعلي. يطلعُ صوت فيروز من بيروت مُغنّيةً للقدس. مَن مِن الحاضرين في المكتبة الوطنية لا ترحل عيونه إلى القدس كل يوم؟ قد يختلف هؤلاء في مُقاربة أمور كثيرة، بما فيها النظرة إلى طبيعة الصراع مع «إسرائيل» ذاتها، لكنهم يُجمعون على رمزية القدس وموقعها الأساس في أيّ وضع مستقبلي للقضية الفلسطينية. القدس، برأي معظمهم، لا تقبل القِسمَة على اثنين: «لا شرقية ولا غربية بل عربية». لكن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك، بل يهدّد ما تبقّى للمقدسيين بشهادة القادمين من القدس إلى بيروت. «القدس في قلب بيروت، وبيروت في قلب القدس، لذلك يأتي اليوم احتفال إطلاق «المقدسية» من داخل المكتبة الوطنية»، وفق ما قال مدير المكتبة الوطنية حسان عكرا (ممثّل وزير الثقافة) في كلمته. وإذ تمنى عكرا «أن تكون هذه المجلة الجديدة بمثابة منارة علمية للعالم العربي وصَرْحاً لإرساء ثقافة عربية جديدة»، أشار السفير الفلسطيني في بيروت أشرف دبور إلى أهمية إطلاق «مجلة العاصمة الفلسطينية، العاصمة الأبدية للدولة الفلسطينية، في الوقت الذي تمرُّ فيه القضية الفلسطينية بمفترق طرق من خلال محاولات تغيير الواقع التاريخي بما يلبّي مصالح دولة الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية». رئيس «جامعة القدس» عماد أبو كشك وضَعَ إطلاق «المقدسية» في سياق «التصدّي للأكاذيب والادعاءات التي تُحَاك للقدس». ولفت في حديثه مع «الأخبار» إلى ضرورة «استشعار التهديد والخطر اللذين تمثلهما الرواية الإسرائيلية على الرواية الحقيقية تجاه مدينة القدس»، لافتاً إلى وجود فارق كبير على مستوى الأبحاث والدراسات حول القدس بين الباحثين الإسرائيليين والباحثين العرب. يقول الرجل الذي يرأس الجامعة منذ العام 2014: «ما نريده من خلال مجلة «المقدسية» هو فرض التوازن على الأقل مع الرواية الاسرائيلية، وهي مناسبة أيضاً لإعادة ربط القدس بالذاكرة العربية والاسلامية والمسيحية». أبو كشك الذي أكد أن «المقدسية» ستصدر لاحقاً بلغات أجنبية أخرى، أشار إلى الدور الكبير الذي تلعبه «جامعة القدس» على المستوى الوطني والإجتماعي، فضلاً عن دورها الأكاديمي «عبر حماية الإرث الحضاري الفلسطيني من مبان وممتلكات ووثائق، وتعزيز بقاء المقدسيين في المدينة ومواجهة إجراءات الاحتلال».
بدوره، لفت رئيس تحرير مجلة «المقدسيّة» سعيد أبوعلي إلى أن فكرة إصدار «المقدسيّة» سبقت «وعد ترامب المشؤوم»، لكنها اليوم «تكتسب أهمية مضاعفة لمواجهة الخرافات التوراتيّة وغيرها من التشريعات العنصرية وتشويه الهوية الفلسطينية». في حديثه إلى «الأخبار»، أبدى أبوعلي خشية كبيرة «أكثر من أي وقت مضى» تجاه تغيير ملامح القدس. وأوضح أن «القدس خاضعة لسيطرة ماكينة استيطانية تهويدية كبيرة وتحتكر التعامل مع القدس بصورة أحادية منذ فترة طويلة، وتُحدِث التغيير التدريجي في ملامحها وتضاريسها فوق الأرض وتحتها». وتابع أنّ «الخطر الفعلي اليوم هو أن الرواية الاسرائيلية المعتمدة على أساطير وادعاءات لم يكن لها ترجمة على الأرض، تجري الآن عملية ترجمتها بصورة حقيقية ومتسارعة وتحت مظلّة شرعنة أميركية قانونية». من جانبه، أشار الكاتب والمشرف على «دار أبعاد» سركيس أبو زيد الى أنّ «إطلاق «المقدسية» يأتي كثمرة لجهود فلسطينية مصرية لبنانية لتؤكد أنّ الاحتلال لا يستطيع أن يعزل القدس عن محيطها العربي». برأي أبو زيد، فإن «المقدسية» هي «شكل من أشكال المقاومة الشاملة، وتأتي في زمن الصفقات لتعلن للجميع أن الحق لا يموت».
المخاوف التي أبداها المشاركون في فعالية إطلاق «المقدسيّة» حول تغيير ملامح القدس وطغيان الرواية الإسرائيلية أكدتها الخبيرة المصرية في علم الآثار التوراتي دعاء الشريف، مُقدّمة في مواجهة ذلك «حقائق دامغة» في معرض للوحات بعنوان «آثار حضارية تواجه ادّعاءات أسطورية» الذي يعتمد بشكل أساسي على كتاب الشريف الأخير «تحطيم الأساطير التوراتية». تقول الشريف لـ«الأخبار» إنّ «اليهود طمسوا الحضارة العربية الكنعانية في أرض فلسطين وقاموا بعملية إسكات كامل للتاريخ الفلسطيني. عندما لم يجدوا أي آثار فلسطينية تتكلم عن داوود وسليمان، اتهموا الآثار الفلسطينية بالخرس لأنها لا تثبت أي شيء سوى الآثار الكنعانية». وإذ تتصدّى الشريف لمهمّة إثبات التاريخ الفلسطيني الحقيقي الذي طُمس على مدى مرحلة زمنية طويلة (من سنة 7000 ق.م لغاية القرن الثالث الميلادي)، تشير في السياق إلى «أن التاريخ الفلسطيني في الجامعات الغربية يعدّ فرعاً صغيراً من الدراسات التوراتية أو جزءاً من التاريخ اليهودي فقط لا غير». وتلفت إلى ما تعتبره عملية سطو كامل للآثار الكنعانية من قبل «إسرائيل»، مشيرة إلى «أن لا وجود في كل متاحف العالم لمتحف يحمل الهوية الكنعانية، بل تراها موزعة على المتاحف الاسرائيلية»! تبدي الشريف أسفها لكون كثير من الشباب العرب في الجامعات الغربية يطرحون عليها أسئلة تتعلق «بحق الشعب اليهودي في أرض فلسطين وليس بحق الشعب الفلسطيني بهذه الأرض». برأيها، فإن من الضروري «إعادة تدوين وكتابة التاريخ الفلسطيني والرواية التوراتية بشكل جاد. وهذا أمر يحتاج إلى جهود كبيرة... عشان يبقى في رواية نقولها لأولادنا»!