منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، شكّلت أعمال ماهر أبي سمرا مقاربة نقديّة للمجتمع وتشوهاته الاجتماعيّة والسياسيّة. خلال الحرب، كان أبي سمرا مصوّراً (وكالة «فرانس برس» وغيرها)، لكنّه توقّف عندما وضعت الحرب أوزارها، فـ «نهاية الحرب هي نهاية الصورة»، في عُرفه. ترك الحزب الشيوعي وسافر إلى باريس لدراسة التصوير السينمائي، قبل أن يعود لينجز باكورته الوثائقية «إعمار على الموج» (1995 ــ 26 د) الذي التزم معه نهجاً لم يفارق بقية أفلامه. في باكورته، يصف المخرج هذا المشهد السياسي على خلفيّة نفايات تعكس الطبقة الحاكمة، ورئيس وزراء (رفيق الحريري) يخصّص وسط العاصمة، وحكومة مؤلّفة من «عصابات الميليشيات» السابقة التي «استبدلت بزّاتها العسكرية بكرافاتات» كي تتولى الحكم. شرع أبي سمرا في انتقاد فساد هؤلاء، الممتدّ من الشمال إلى الجنوب: 2400 طنّ من النفايات الكيميائيّة التي رمتها شركة إيطاليّة في لبنان كانت متواطئة مع حزب القوّات اللبنانيّة، وتشويه الشاطئ المكتظّ بالسكّان، و1200 طن من النفايات المنزليّة والصيدلانيّة تُرمى يومياً في بحر بيروت وحده، وشفط الرمل وسرقته (حركة أمل في صور)، والتلوّث واستغلال عمّال القمامة في شكّا الذين تشكّل سموم النفايات خطراً عليهم. أمّا في «دوّار شاتيلا» (52 د ــــ 2004)، فتتحوّل الكاميرا إلى إحدى شخصيّات الفيلم لتنقل تناقض احتفال إحياء ذكرى المجزرة. تراقب الكاميرا تدفق الزوار بشكل آلي. هم مأخوذون بألم ذكرى المجزرة كأن الماضي يمحي الحاضر، ووضع السكان الذين يعيشون في هذا المكان.
المقاربة التي يعتمدها ماهر أبي سمرا في أفلامه ليست استفزازيّة. يقول لنا: «تتصدّر الفضائح العناوين الرئيسة للصحف من دون محاسبة ولا حلّ ولا مراجعة، فيما البلد يتدهور». تتكرر هذه الفكرة في أفلامه، وخصوصاً «شيوعيين كنّا» (٨٥ د ــــ 2010) الذي يبدأ بعزل كلّ شخصيّة لمقاربة خصوصيّتها بطريقة أعمق. في بداية الفيلم، إصرار على تعريف الذات عبر بنوة أمومية تضع المشاهد أمام مسؤولياته المدنية والمساواة. كلّ الأحداث تتمحور حول الأنا لاكتشاف الذات ونقدها، أي الأنا التحليليّة، فيسأل المخرج نفسه وهو يراقب رفاقه: «ماذا كنت لأصير لو بقيت هنا؟». هذه المعالجة الجدليّة تولّد اضطراباً ذاتياً عند الغير. إذ أن إعادة النظر على المستوى الفردي عبر الحوار، تطال الجماعة كلّها في نهاية المطاف، ويتمّ هذا الانتقال من خلال القصص الفردية. في نهاية الفيلم، يعود كلّ من المقاتلين السابقين الأربعة إلى قريته التي هي رمز التقاليد والطقوس في ظل غياب أي فسحة مشتركة.
يجد ماهر نفسه في مسقط رأسه شبعا المجاورة لفلسطين، التي عانت من عثرات اقتصاديّة عدّة من بينها إغلاق الحدود. انهارت البلدة اقتصاديّاً ثمّ هجرها سكّانها. من خلال انتمائه الشيوعي، عاد ماهر إلى البلدة المحتلّة حيث اعتقله الإسرائيليّون. خلال اعتقاله، أدرك «عنصريّة الدولة في إسرائيل وآلية السجون الإسرائيليّة التجريبيّة التي تعامل السجناء السياسيّين كأنّهم أدات للبحث في مختبر دوائي واجتماعي». نكتشف القرية/ الأسطورة أولاً تحت شعاع الكاشف الضوئي الإسرائيلي المصوّب نحوها. ثم تشرق الشمس على المتنزّه الذي بات وحيداً. ومن ثم بين لقطات المخرج - المصوّر الشاعريّة، يدخل الصمت على مشهد متردّد بين الحركة والجمود، ويمنح صوت قطرات المياه إيقاعاً للوقت.
في فيلمه الأخير «مخدومين» (ساعة وسبع دقائق ـ 2016)، لا يُظهر ماهر العاملات المنزليّات ولا يُخبر عن الحالات القصوى (انتحار، تعنيف)، فكثرة العنف تحمي من الحقيقة لأنّنا لا يمكننا أن نتشبه بهذه الوحوش. يكشف أبي سمرا عن عمل الدولة مع «المكاتب» لكنّه لا يبرّئ أخاه اللبناني وزميله ونظيره وشريكه في هذا النوع المعاصر من الإتجار بالبشر ويدين الطابع الصناعي لاستقدام العاملات الأجنبيّات. يصبح المشاهد محطّ الانتباه ويؤدّي تطبيع العنصرية إلى التعاطف، أي إلى التوعية. في نهاية الفيلم، تظهر العاملات أخيراً. هن الساكنات الممحوات من الحي، عبر رسومات كأنهنّ مجرد مريول يتكاثرن ويستنسخن على واجهات المباني ليكشفن فضائح معاناتهن بصمت ويفارقنَ الحياة مثلما ينطفئ الضوء. إنّ المرور بالمرأة لفهم السلطة أساسيٌّ بالنسبة إلى ماهر. يوضح لنا بأنّ ما دفعه إلى الشيوعيّة عندما كان مراهقاً هو «جوّ اجتماعي ومساحة غير طائفية، إضافةً إلى القيم وخصوصاً الحبّ».
يرصد «نساء حزب الله» تطوّر هويّة المقاومة


إنّ المرأة في عالم المخرج هي التي تقود. «نساء حزب الله» (2000) يخبر قصّة امرأتيْن، مسار كلّ منهما مختلف عن الأخرى: واحدة تنتمي إلى اليسار العلماني، والأخرى نشأت في بيئة محافظة. من خلالهما، تبدأ المناقشة التي تذكّر بمناقشة شخصيّات «شيوعيّين كنّا». نتابع أيضاً ـ من دون أحكام ـ تطوّر هويّة المقاومة التي يحتكرها «حزب الله» اليوم. في هذا العمل التذكاري الجريء، يدعو المخرج اليسار إلى النقد الذاتي، أوّلاً عبر تذكيره بأفعاله خلال الحرب الأهليّة، ثمّ بترك حقل شاغر احتلّه آخرون.
يحبّ ماهر أن يفصل في عمله بين النساء والرجال، لا بدافع خدمة المساواة بل من أجل خدمة اللغة. لذا، يمكننا أن نعتبر «مريم» و«مجرّد رائحة» فيلماً مزدوجاً. صوّر المخرج هذيْن الفيلميْن عام 2006 بعد «حرب تموز». وفيما يركّز الفيلم الأوّل على متطوّعة تساعد نازحين في الجنوب قبل أن تذهب إلى القرية المدمّرة بفعل القصف، يتبع الثاني صديقه الذي يبحث عن جثّة والدته وسط الركام. لكنّ الجنسين يعامَلان بطريقة متساوية في الفيلميْن. ومن الملاحظ أن الثنائي منفصل في الفيلمين لأنّه يهدّد الفرد الأنثوي. إضافةً إلى ذلك، يعتبر أبي سمرا أنّ «الرجال يجدون صعوبة في التخلّص من كلام الحزب السياسي. أمّا النساء، فهنّ مثيرات للاهتمام أكثر لأنّ كلامهنّ ليس متصنّعاً ولأنّهنّ يشكّلنَ مكاناً ملائماً للثورة نظراً إلى أنّهنّ مكان متمرّد مفتوح بسبب سعيهنّ إلى المساواة».

* يعرض «نساء حزب الله» و«مخدومين» في 25 حزيران (س:20:00) في سينما «لينكولن» في باريس على هامش معرض سبيل غصوب «هذه بيروت» في «معهد ثقافات الإسلام»