سوف نستعير أولاً، عنوان ديوانه الأخير «الوليمة» (1994) لفحص تجربته المتفرّدة في الحداثة الشعرية العربية، ذلك أن مائدته غنية ودسمة ومدهشة في ابتكار نص يشبه صاحبه. اللهاث وراء مقدمة ديوانه الأول «لن» (1960)، لم يتوقف منذ ذلك التاريخ، فهذا البيان الشعري الاحتجاجي، كان وما زال العتبة الأولى لاكتشاف وتوصيف معنى قصيدة النثر، جيلاً وراء جيل، كذلك علينا أن نتأمل تلك الصورة المشهورة بالأبيض والأسود التي جمعت فرسان «مجلة شعر»، والسجالات الصاخبة التي أنجزت ذلك الانقلاب الشعري في الذائقة العربية، قبل أن يتباعد أصدقاء الأمس في جغرافيات شعرية متنافرة.
وحده أنسي الحاج ظلّ متمرّداً ومخلصاً لبيانه الأول لجهة التوتّر وإعادة النظر في تربة القصيدة وحراثتها من الداخل بمعول رشيق، بقصد تخليصها من مقدساتها القديمة المتوارثة نحو فضاء حرّ وشاسع ومفتوح، من دون أسوار بلاغية قديمة تقيّد حركتها، أو مشاغلها المختلفة. هكذا سطعت قصائده الطليعية مثل حقل من عباد الشمس في ديوان الشعر العربي الجديد، من دون أن تتراجع إلى الظل، رغم تعدّد التجارب الشعرية اللاحقة وتنوّعها واختلافها، فهذه التجربة كانت أحد المنابع الأصيلة والمرجعيات المؤسسة لقبيلة شعراء قصيدة النثر. وإذا كانت تجارب محمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وأدونيس قد وجدت مريديها ومقلديها، فإن تجربة أنسي الحاج بقيت عصيّة ونافرة ومتمرّدة؛ لأن نارها ظلت موقدة، من طريق الهتك الدائم لبلاغتها واستقرارها اللغوي، وكسر قالبها باستمرار، وصعوبة التقاط مسالكها السريّة المتأرجحة بين السريالية والنفحة الصوفية، الصمت ولهيب النار، الجذوة العاطفية والطهرانية، ومعانقة الأسئلة الكونية، بأدواته السحرية، ونبرته المغايرة، وسجادته اللغوية التي ابتكر خيوطها على مهل، في محو مفردات «التراث الرسمي» ومقارعتها بمعجمٍ آخر، والتأسيس مبكراً، لسرد شعري حميمي، سوف يكون بعد حقبة طويلة ملاذاً لتجارب شعرية أخرى، وجدت في السرد ضوءاً لعزلة القصيدة وانغلاقها على نفسها.
ليست الريادة وحدها من وضعت مغامرة أنسي الحاج في إطار مذهّب، إنما تلك الدمغة الخاصة في قماشته الشعرية، من دون وصايا لاحقة، أو كما يقول عنه محمد الماغوط «شعره ساقية صافية، وليس نهراً مسموماً». كأن بيان «لن» هو النسخة الأصلية الوحيدة، بصرف النظر عن ارتحالاته التالية التي كانت على الدوام من داخل تجربته، وليس من خارجها، عبر زجّها المتواصل واللامرئي في أرضٍ جديدة، حتى في عبوره إلى أرض نثر أخرى، كما في «كلمات، كلمات، كلمات» التي أتت بوصفها بياناً آخر موازياً لندائه الشعري الأول، ومنافحاً عن موقفه من قضايا عامة، لا تدخل في مشاغله الشعرية، بل تستعمل الأدوات نفسها. أما في «خواتم»، وهي الحركة الثالثة، في تجربته، فقد كانت الخلاصة الناصعة لمسيرته، أو المغزل الذي صقل العبارة أكثر، وذهب بها إلى الكثافة القصوى، على هيئة شذرات وحكم وتعاليم، نابذاً ما هو فائض ويحتاج إلى الشرح أو التعليل، كأننا حيال أحجار كريمة تلمع في العتمة، أو ندوب في الروح، وطعنات غائرة في الجسد. هذا الهدم المحتدم للكلمات هو برزخ التجربة الأخيرة؛ إذ تتناوبها الروحانية من جهة، والشبقية من جهةٍ أخرى. الشبق هنا لغوي في المقام الأول، قبل أن يحيل إلى الحسيّة المخبوءة في المتن العميق، أو الجوانية المطلقة، بالإضافة إلى أفكار لا تتوقف عند حدود، بل تتشظى إلى كل الجهات، كصرخة موجعة، وألم، وحلم، وصمت، وعاصفة. عند هذه المنطقة، على وجه التحديد، تتداخل نثرية صاحب «الرأس المقطوع» بشعريته، وطهرانيته بآثامه، وما هو دنيوي، بما هو ميتافيزيقي. جموح يهتك المتوقع نحو المفاجئ والمباغت والمدهش بضربة مدية واحدة، فالاقتصاد اللغوي يشفّ إلى طبقة الحرير، خصوصاً، في خواتمه الأولى والثانية. أما خواتمه الثالثة، فكانت ضرباً من المتناقضات، تبعاً لمزاجه وانخراطه بقضية عابرة أو أصيلة، من دون أن يتخلى عن الجماليات الدنيوية بوصفها مطلقاً آخر موازياً للمقدس.
الآن، ونحن نفحص كنوز أنسي الحاج، وميراثه الطويل، ودروبه المتعرّجة، ومعجمه النفيس، قد نلتقي، في محطةٍ ما، بنسخة أخرى من جبران خليل جبران، من دون وقائع مؤكدة، فلكلٍّ منهما نبيه وصوفيته وجنونه، وإن اختلف لون الحبر، وإيقاع الكلمة، ودرجة الروحانية. لكن ما هو مؤكد، أنهما حاولا زعزعة الأعراف، وحفر مسالك مبتكرة في اللغة، وقد أتيح لأنسي أن يصرخ بصوتٍ أعلى، وببسالة أكثر هتكاً لما هو مستقر وسكوني وصارم. في كل الأحوال، سيقودنا أنسي الحاج أخيراً، إلى عزلته، عزلة النص في تشكّله، وعزلة الشاعر في ابتكار مراياه الفردية، ونزقه وعناده وعشقه المرتبك، وأنثاه المشتهاة التي تتمرّد على صورتها، كلما اكتملت في المرآة، وسعيه المحموم إلى اكتشاف ألغازها، ذلك أن جانباً أساسياً من تجربته، يضعه في مقام الحب بكل طبقاته، من فرط توقه إلى النشوة، نشوة البلاغة المتفلتة من أجراس الأسلاف. ولعل هذا ما سوف يبقي نصوص الشاعر الراحل حاضرة على الدوام، في عنفها الخفي، ومشهديتها المتجدّدة، ومصيدتها المباغتة لطرائد اللغة الناصعة. أنسي في غيبوبة؟ نعم، ولكنه لن يغيب.