للمرّة الأولى في تاريخه، يخصص «مهرجان هولندا للفنون» مساحة واسعة للفن الملتزم. المهرجان العريق والأهم في البلاد المنخفضة، يتحرّر في هذه الدورة من نطاق العروض الأوروبية ويرفع شعار العالم على خشبة المسرح في دورة هي الأكثر تنوّعاً وانفتاحاً على جغرافيات متعدّدة وأنماط فنية مختلفة.في دورته الثانية والسبعين التي بدأت في 29 أيار (مايو) الماضي وتستمر لغاية 23 حزيران (يونيو) الحالي، يستضيف الحدث 39 عرض مسرح وأوبرا وباليه وموسيقى وسائر الفنون البصرية التوليفية من تشيلي وكولومبيا والكونغو وألمانيا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا. وذلك على مسارح «كونسيرتخباو» و«أمستردام » و«كاريه الملكي» و«مركز خاست فابريك الثقافي»، إلى جانب فضاءات أخرى في المدينة.

القارة السمراء
على نحو آخر، يمكن اعتبار القارة السمراء ضيف شرف هذه الدورة نظراً لحضور أعمال عديدة لفنانين ملتزمين تتمحور حول معاناة الأفارقة وتجسدها على خشبة المسرح. وما يعزز هذا الرأي اختيار مسرحية «الرأس والحمولة» لافتتاح دورة هذا العام. عمل مسرحي ــ موسيقي مبهر هو ثمرة تعاون مشترك بين الموسيقار فيليب ميلر، أحد أبرز الملحنين الجنوب أفريقيين، ومواطنه الكوريغراف ويليام كنتريدج . والعمل كما وصفته الصحافة الهولندية «مسيرة موسيقية موفقة» بمشاركة مبدعين من مختلف دول العالم من مغنين وراقصين وممثلين.
ينصب التركيز على ما يقرب من مليوني أفريقي استخدمهم البريطانيون والفرنسيون والألمان خلال الحرب العالمية الأولى، ويمثّلون نسبة كبيرة من الضحايا ــ قصة مأساوية ذات معنى تاريخي ظلت إلى حد بعيد غير معروفة.
يفضح العمل كل تناقضات وانتهاكات الاستعمار التي تضخمت وكانت سبباً أساسياً في اندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى. عمل يجمع بين الموسيقى والرقص والرسوم المتحركة والفنون البصرية، لسرد الحكاية المغيّبة عن الملايين من الحمالين الأفارقة الذين خدموا ــ وتوفي معظمهم ــ على الجبهات البريطانية والفرنسية والألمانية.
يعد The Head & The Load عرضاً طموحاً، محمّلاً بثقل هذا التاريخ المغيّب. وبالقدر الذي يسعى فيه العمل إلى تسليط الضوء على تغييب ممنهج للضحايا الأفارقة بقدر ما يلتف الخطاب الغربي على المغزى الأساس ويقدّم الحدث باعتباره حصيلة سوء فهم تاريخي. هنا، يقلب كنتريدج سياسة التمثيل، ويقدّم الخلاصة على لسان المستعمِر: ما لم تكن أعمالهم تستحق التقدير، فلا ينبغي توثيقها.
في الجانب الآخر من المدينة، شمالها تحديداً، وفي مبنى «متحف العين السينمائي» الذي يعدّ من الروائع المعمارية التي تأسست في السنوات الأخيرة، تقدّم مؤلفات ميلر القوية إضافة مثالية لأعمال كنتريدج البصرية. عشرة فيديوات (1989 ــ 2011)، تتكوّن من رسومات بالفحم، وقد تحوّلت إلى كليبات أو وثائق سمعية بصرية ترافقها موسيقى الملحن فيليب ميلر. إنّها تعطي نظرة عن الحياة في جنوب أفريقيا بعد إلغاء الفصل العنصري عبر خمس شاشات منصوبة في بهو المتحف المكوّن من طوابق وفضاءات متداخلة.