«ليس أثقل من اليوميات. ليس أخف من الأيام». هكذا تُصدّر هدى فخر الدين كتابها «زمن صغير تحت شمس نائية» (دار النهضة العربية ـ 2019) لنكتشف مباشرة ومنذ السطر الأول أننا لسنا أمام يوميات أو مذكرات بالمعيار النسقي أو الأسلوبي الذي يفترض نوعاً من التسلسل الزمني أو فسحة رديفة تسمح للشاعر أو الكاتب أن يقول نثراً أفكاره الفلسفية أو التأملية التي لا يمكن ضخّها كلها في نتاجه الرئيسي. بل يمكن القول إننا نلمس «روحاً شعرية» تروي سيرة إقامتها وترحالها في الجغرافيا والأماكن والأفق وفي مساحة الترانزيت هذه: «أعيش في الوقت وخارجه... أراني وأسمعني حين أمشي أمشي إلى جانبي، أتبَعُني. ما عدت أعرف كيف أكون أنا، بتّ أنا ومن يكتبني».تسائل هذه الروح الشاعرة كل ما يستفزها سلباً أو إيجاباً في الحياة واللغة، وتستنطق محطات القدوم والرحيل: «ليس أخفّ من الأيام، فكيف لها أن تترك كل هذا الثقل الذي يسكن الزاوية نفسها، يتكدس غباراً وأصداء، صوراً وخيالات. الأيام هباء يعود ليتماسك، ليجمع نفسه في البال، فيتشكّل ويجلس ثقيلاً متوثباً، صامتاً متكلماً كالحَجر». هذا المقطع الذي هو أشبه بقصيدة نثر صغيرة، سيفلت مع مقاطع مشابهة في سيولتها وامتلائها بالاستعارات، وما هو في قلب الشعر من هواجس تتضخم ومتخيّل يتفاقم ومساءلة تدوم وقلب لمنطق الأشياء لتبدو كأنها تمشي على رأسها كما يقول بول سيلان، ولتنطق حتى الطيور والنباتات والأحجار الصامتة/ المتكلمة والكائنات الفانية. إذ تفاجئنا هدى فخر الدين بهذه المقاطع التي تخرج من سردية ترحالها للدراسة والعيش في الولايات المتحدة بين مدن ثلاث هي انديانا وفرمونت وفيلادلفيا، إلى هذه المنطقة الشعرية الخالصة: «جدي والسماء في الصباحات يتحدثان. هو يتكلم وهي تنصت. وحين يفرغ من شرب قهوته، يطلق السماء من العريشة فتشرق الشمس، تنهض كائنات الحديقة» أو «شوارع فيلادلفيا جُمَل. والخطو فيها كلام لا ينتهي، كلام يزدادُ جِدّة. وكأنّه حين يقال لا ينكَشِف بل يعود إلى سرّه».
في كتاب هدى فخر الدين «فلاشات» بصرية موفقة هي أقرب إلى «مشهد اللقطة الواحدة» أو (Plan Sequence) بلغة السينما، كما في هذا المقطع: «قبل أن أغادر بيروت بقليل، اكتشفت وجهاً حقيقياً لشارع الحمرا. كان هناك، ولكني لم أنتبه إليه إلا حين نظرت مرة بالمصادفة إلى الأعلى. كنت أمشي نحو الجامعة ولمرّة لم أنظر في وجوه المارة والمتسكعين على الأرصفة وفي المقاهي بل نظرت إلى الأعلى. فوجئت بماضٍ يقبع هانئاً فوق الشارع لا يعكّره صخب ولا تقلقه اللحظة الراهنة. كأن الزمن بعجرفته وبركبه الممسوس لم يمر إلا في الشارع، نسي الأدوار العليا من الأبنية. لم ينتبه إلى شرفات حالمة ونوافذ عليا ساهمة، لا تنظر إلى الأسفل بل تنفتح على شارع الحمرا كما يحب الشارع أن يتذكر نفسه». نحن هنا أمام عين سينمائية ثاقبة تتلاعب بالمشهد المكاني بعدستي السرعة والبطء، كما سنعثر على كثير من الثنائيات التي ستخفف فخر الدين من حدتها باللغة الشعرية التي تخترق النص، فبعكس ما تعودنا عليه في نصوص الرحيل من بتر مع الأماكن الأولى أو نواح على أطلالها، ومن الثنائية المستهلكة للوطن والمنفى، تتبدى إشكالية السفر والهجرة بالشكل السهل الممتنع في مقطع مثل: «نسقِط في الأكواب ورقاً يابساً حملت بعضاً منه معي. أوراق وزهور جفّت تحت شمس أخرى أكثر إلفة، على سطح بيت بات بعيداً الآن. لم أكن أنتبه إلى الأكياس الصغيرة في الخزانة، أكياس أعدّتها لي جدتي فملأتها زعتراً يشفي، بابونجاً يؤنس، وإكليل الجبل الذي يفتح لك نافذة آخر الليل حين يطبق الظلام» أو في مفارقة الفارق في التوقيت بين البلدين «على الكلام بيني وبين أمي أن يعبُر في الزمن إلى الوراء. كلّما أرادت أن تقول لي شيئاً، على صوتها أن يَعبُر إليّ من الصباح إلى الليلة التي فاتت. فكيف لنا أن نقول شيئاً؟». وكما تصغي فخر الدين إلى اللوزة الجنوبية التي «تحدق في البعيد» والتي «في كل هجوم يحترق جزء منها حتى أنها أصبحت أقصر وأكثر صلابة مما يمكن للّوز أن يكون»، فإننا أيضاً نعثر على الحزن نفسه في الجهة المقابلة من الأرض: «لفيلادلفيا آلام خفية وأنا أسمع لها أنيناً مهما كان النهار مشمساً طلقاً، فللشجر الساهم ذاكرة لا تكلّ». نحن هنا أمام القدرة ذاتها للروح الشعرية في النص التي يشبّهها رامبو بـ «شرارة الذهب في الطبيعة المضيئة» بقدرتها الخارقة في دفع الأشياء من الخارج نحو الداخل، في الجمع والتنقية وإخضاع كل جزء مما تلتقطه الحواس في الجهاز المعقّد للكلمات ليخرج منها الضوء. «هنا الآن. خلف زجاج يمسك المدينة عني، يمسكها صامتة ملمومة في إطار، أشعر باقتراب نهاية ما. والنهايات كثيرة، هذه واحدة وهذه أخرى فكيف أعدّ لها جميعاً؟ كيف أرتب لها بدايات مؤاتية؟». يقول الفيلسوف الألماني هايدغدر في أحد كتبه «أن تكون شاعراً يعني أن تقيس»، وكذلك بول كلوديل في النشيد الخامس الذي يحمل عنوان «المنزل المغلق» حين يعرّف الشعر بكونه قدرة على التماسك والقياس «كشاعر، لقد وجدت المقياس. أقيس العالم بالصورة التي أكوّنها عنه». وإذا كان الشعر هو هذه اللغة المعيارية التي تقيس الوجود الإنساني بين السماء والأرض، بين النسبي والمطلق، بين السعادة والشقاء، فإننا سنعثر في كتاب فخر الدين على هذا النوع من الـ «بين ـ بين»: «ركب النهايات هذا الذي يتصل ويمتد لماذا أستعيده؟ أشعر باقتراب نهاية ما، ولا أعرف إذا كان هذا شعوراً بالرضى أو بالحزن. لا بأس، فكلاهما وجه من وجوه الخسارة».