الردهة مفتوحة على القاعات. لا حواجز هنا. المبنى جسد واحد، ولكنه مقطع من أجل «الخصوصيةِ». يذكّر هذا بصيغ مألوفة عن الجماعات وعن حاجة الأفراد للعيش داخل الجماعات. في «بيت بيروت» العبور مسموح بين الأجزاء ولا حاجة للتكلف والحديث عن الحرب. انتهت الحرب ولكن ماذا عن الهويات؟ في الردهة، يتحدث المعرض عن نفسه أكثر من أي مكان آخر. الردهة صلة الوصل بين القاعات، وفيها لوحة تمثل «دائرة النفوس». وحسب التعريف الذي اختاره المنظمون، صناعة الأمة (المتخيّلة طبعاً) تتم في هذه الدائرة، حيث ينتظم الأفراد، في «أمة». ستبتسم هنا، وتبحث عن «الأحوال الشخصية». فاللبنانيون ليسوا بحاجة إلى التكلف لمعرفة أنهم مُجبرون على الانتظام في طوائف، وأن سيرتهم في الدولة تروى غصباً عنهم عبر سير طوائفهم. قبل الردهة، في القاعة الأولى، افتراض مفخخ ومعلن: الأمة اللبنانية. في القاعة الثانية، خطوة نوعية في المعرض: الهوية عبر الأسرة، والتصويب على مآسي الهرمية. القاعة الثالثة، الوثائق. الأوراق المجانية التي كلّفت كثيراً. حبر على ورق، ربما، لكن ليس على جدران «بيت بيروت». الوثائق صامتة، الجدران تتحدث، ومتى يصير الأمر معكوساً، تنطلق الهوية. في القاعة الأخيرة، محاولة «رقمية» خارج «السياق العام»، لكنها هي الأخرى لا تستطيع التنصل من ذاكرتها الطويلة التي تتسلسل من القاعات المجاورة.ثمة مشكلة تاريخية في علم الاجتماع، تتمثل بتحديد حقيقة وجود هوية رئيسية. يمكن الاتفاق بسهولة على أن الهوية مركبة، لكن ماذا عن تراتبية المركبات؟ يقدّم المعرض مواقف سياسية تدور حول المواطنية وحول الهوية. أفكار كثيرة، ليس من السهل تناولها في تظاهرة واحدة. الجنسية اللبنانية الحقيقية، والجنسية اللبنانية المكتسبة. العاملة والعامل والكفالة. اللجوء إلى لبنان. مرسوم التجنيس. مواقف وأسئلة، من زاوية واحدة ومحددة: الوثائق الرسمية. يبيح هذا الافتراض، بنية حسنة مبالغ فيها، وجود هوية لبنانية تستوي على إرث مشترك بين حامليها، والأهم، مشتركات فعلية في المسألة القيمية. بيد أنه، عند الحديث عن الهوية في وقتٍ مثل الوقت الذي نعيش فيه، يتطلب الأمر انفتاحاً متوازناً على الغيرية بمجالاتها المتعددة، أكثر من الدفاع عن الخصوصية، بمعزل عن طبيعة الخصوصية المزعومة كوهم أو كحقيقة مبالغ في تقديرها.

من المعرض (مروان بوحيدر)

هكذا، تقدّم الأعمال المعروضة عن نفسها بشجاعة، ولكنها قد تخفي قطعاً كبيرة من الحقيقة. باستثناء اللغة الحاضرة تلقائياً، سيلحظ المشاهد بسهولة اختفاء المكون العربي من النقاش، والاكتفاء بالسردية اللبنانوية لنشأة لبنان، وتتبع الهوية ضمن حدود منشأته المفترضة. التذرع بموت الفلسفة، أو بإطار «غير رسمي»، ليس مقنعاً. فاللغة، حسب كثير من الباحثين في مسائل الهوية المعاصرة، ليست أداة قابلة للتحييد، فهي تحوي الأفكار وتتشبع بالماضي، وهي أشبه بظل الذاكرة في الحاضر. وربما، لهذا السبب، كان اختيار «جواز السفر السوفياتي» لماياكوفسكي استعارة موفقة من الناحية الشكلية.
عموماً، المعرض يحمل رفضاً للقوالب الجاهزة، المتمثلة بالبيان الإداري. وهذه مقاربة أصاب الفنانون المشاركون بترجمتها بصرياً. الحديث هنا عن الطبيعة «الجبرية» للهوية، إذا أمكنا استعارة الفكرة من تودوروف. فالذي يأتي إلى العالم يأتي مجبراً على ذلك، ويسجّل قدومه على هذا الأساس أيضاً. صحيح أنه لم يكن ممكناً أن يساجل المعرض في الجانب الوجودي للهوية اللبنانية، لكن منطلقاته لا تنجو من منهج سياسي لا اجتماعي ولا أنتروبولوجي، وإن كان الوصول إلى نفس النتائج عبر أدوات بحثية أخرى. أما القول إنه سياسي، فلأنه يفترض وجود «أمة» لبنانية في الزمن، بينما يقدّم أعمالاً تدحض الافتراض الأساسي، بدلاً من أن تشكّل مادة سجالية. ما يطرحه المعرض هو إجابات، بينما، الموضوع كان بحاجة إلى الكثير من الأسئلة.
عموماً، وبالعودة إلى الصورة الشائعة عن الجماعات اللبنانية، لا يجب التعامل مع المعرض كدليل إلى الصورة الناجزة عن الهوية، أو كإرشادات إلى الهوية. فالأعمال الفنية المعروضة عموماً تدور حول فكرة «الدولة»، أو حول فكرة الكيان الجامع، أكثر من دورانها حول الثنائية الكلاسيكية لتحديد مركبات الهوية: الجماعاتية – الفردانية. وإن كانت القاعات المفتوحة على بعضها فكرة موفقة في المعرض، للإيحاء بأهمية التبادل والتواصل أثناء تكوين الهوية، فإن ثمة إيجابيات أخرى للعلاقة بين الردهة بوصفها شعباً تشكّل، والقاعات بما هي «مراحل». ثمة محاولة «مقصودة» غالباً، للحفاظ على العلاقة بين القيم المكتسبة وبين الثقافات الأساسية، بحيث يصير الأرمني لبنانياً في سياق، ثم في سياقات: الأرشيف يكفي للإشارة إلى لحظة قدومه. أما تطور علاقة فهرام حاجي فارتيكيان بهويته، فتحتاج إلى دراسة طويلة. في الواقع، ولد فهرام في الإمبراطورية العثمانية، ثم لجأ إلى لبنان عقب الإبادة في 1923. لكنه انتقل إلى فلسطين في 1943، وبدأ حياة جديدة. ثم عاد إلى لبنان في 1948 كلاجئ فلسطيني رغم أنه يحمل الجنسية اللبنانية منذ 1925. طبعاً تتوجب الإشارة إلى أن انتقاله كلاجئ فلسطيني إلى لبنان ينقل في الملصق التعريفي تحت تعريفه ببرودة. وهذا يعيد إلى نقطة البداية، أو إلى التصور اللبنانوني عن الهوية، بحيث ثمة اعتقاد ملموس بانقطاعها عن الجغرافيا.
سيلحظ المشاهد بسهولة اختفاء المكون العربي من النقاش، والاكتفاء بالسردية اللبنانوية لنشأة لبنان


قد لا يكون غريباً أن يكون المعرض بحسابات داخلية صارمة، إذ أنه ينطلق من سؤال أساسي: «ماذا يعني أن يكون المرء لبنانياً؟». ستتنوع الإجابات، وتعاد صياغة السرديات عن الهوية، ولن تكون أسهل دلالتها إلا المكان الذي تعرض فيه. ثمة مزاج عام يقضي بالاتفاق أن «بيت بيروت» الذي يقع على خط التماس القديم بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، يصلح أن يكون رمزاً أو دليلاً إلى الحرب. وهذا اختزالي أيضاً، لأنه يستثني رزمة عناصر من مكونات الحرب ومسبباتها، ويكتفي بالطبيعة السيميائية للمكان، كمحدد جغرافي وتاريخي لمتغيرات لا يمكن إحصاؤها. نتحدث عن الطبقات الاجتماعية وعن العلاقة بين المكان والأرياف وعن الهرمية والأبوية والخيارات الشخصية. رغم ذلك، يبقى المكان صالحاً من الناحية الرمزية لمقاربة «الهوية» خارج سياقها اللبناني. في المحصلة، رغم الانطلاق من سردية الأمة اللبنانية وهي فكرة مهتزة، فإن أدوات الدراسة الأساسية في المعرض، أي السجلات الإدارية والوثائق الرسمية، تجعل الفكرة مغرية، لتفسير الطبيعة القمعية للدولة. على الأرجح، يعرف أصحاب الفكرة أنها ليست كافية لإعادة النظر بالطبيعة الطائفية السائدة لقراءة اللبنانيين الحالية لهوياتهم. وصحيح أن العمل الفني يحتاج إلى هوامش متحررة من الأطر النظرية، إلا أن الباحث في الهويات الفردية لا بد من أن يفتقد عناصر كثيرة، مثل النقاش عن الموقع الطبقي أو الهوية الجنسية وأشياء أخرى، تفادياً للإجابات المغلقة. ذلك لا يلغي أن المعرض ينجح في تعرية الخطاب السائد، بتبيانه كيفية التأطير التاريخي للهويات اللبنانية، عبر العائلة، والدولة بوصفها جهازاً، والعلاقة مع العالم كرقم خال من التمايز، لا بل كسلعة ببعد واحد.

* «هويتك حبر على ورق»: حتى 31 أيار (مايو) ــ بيت بيروت (السوديكو ـ بيروت) ـــ للاستعلام: 71/386310