لا تكاد تنتهي «ورشة عمل» أو فعاليّة ما في الجامعة الأميركية في بيروت حتى تبدأ أُخرى. في حديقة «الأميركية»، يطرح الباحث والأستاذ الجامعي محمود شريح على مُحدِّثه سُؤالاً افتراضياً قد يبدو هامشياً: «ماذا لو قمنا بإزالة الصروح والأبنية التراثيّة الجميلة للجامعة من مكانها؟ ألا تتحوَّل الجامعة العريقة (تأسّست في عام 1866) إلى مجرَّد حديقة عامة تكاد تكون أجمل من جنينة الصنايع»؟ لا ينفي الرجل حقيقة أنّ كثيراً من «الأَعلام» في الأدب والفكر والسياسة خرجوا من بوّابات «الأميركية» على مدى عقود من القرن الماضي.

لكنّ الرجُل الذي ينتمي إلى جيل أساتذة كان «همّهم الأول تدريب طلابهم على البحث والموضوعية وإعادة النظر في الموروث بقصد تصويبه»، يبدو واثقاً أيضاً من أن ثمَّة «بروباغندا» هائلة أسهمت في صنع الهالة الكبيرة التي أُحيطَتْ بالـAUB لأسباب تاريخية عديدة. وشريح المولود في برج البراجنة (1952) لوالدين فلسطينيَّين نَزَحا من ترشيحا في الجليل، دَرَسَ هو نفسه في الجامعة الأميركية في بيروت اللغة الإنكليزية والتربية والفلسفة (تخصَّص لاحقاً في فلسفة هيغل في بريطانيا). وفي «الأميركية» أيضاً، درس التاريخ على يد كمال الصليبي بدءاً من عام 1973، وأجرى معه مقابلة مطوَّلة في «النهار» في عام 1983 ورافقه حتى وفاته في عام 2011.

الجماعة والدولة والأمّة.. والنموذج اللبناني
في مقاله المنشور للمرّة الأولى مطلع التسعينيّات، يطرح الصليبي إشكالية رئيسيَّة تتمحور حول إمكانية تعايش «الجماعة» و«الدولة» و«الأُمَّة» كما احتمالات الصدام والصراع فيما بينها. مسألة تتظهّر بشكل واضح في بلد كلبنان «البلد العربي الوحيد في المنطقة الذي تتصادم فيه ولاءات المجتمع والدولة والأمّة» وفق ما يقول الصليبي في المقالة إيّاها. في المقال، لا تبدو مسألة التعايش بين مفاهيم الدولة والجماعة والأمّة أمراً مستحيلاً ولكن شرط «توفُّر لكلّ منها الاعتراف اللازم لها في إطار عمل النظام الديمقراطي». وإذ يقدّم الصليبي في المقال تعريفات محدّدة لكلّ من مفاهيم الدولة والجماعة والأُمّة مع ما يتخلّلها من نقاط تقاطع وتداخل، يخلص إلى نتيجة مفادها أن «ليس وجود الجماعة والدولة والأمة على أنّها وقائع منفصلة ما يؤدّي إلى نزاع فيما بينها، لكن يؤدّي إلى ذلك عدم الإقرار بهذه الوقائع على أنها وقائع منفصلة. والدولة بين هؤلاء هي الحقيقة الأكثر واقعية لأنها كيان قانوني. إن واقع الجماعة أقل واقعية من وجود الدولة، فيما حقيقة الأمة هي الأكثر تجريداً. إلا أنّه من الطبيعي أن تكون من مصلحة الواقعي أن يُفصح عن أهمية المجرّد وأخذه بالحسبان».

توقف كمال الصليبي مقارناً بين الولاء الطائفي في لبنان والولاء القبلي في الأردن (هيثم الموسوي)


يؤكد محمود شريح أنّ الصليبي عدَّل في نظرته إلى تاريخ لبنان الحديث مع تنامي فكره السياسي

يتطرّق الصليبي في مقاله إلى ما يعتبره «تعثّر الأحزاب السياسية (اللبنانية) في النفاذ إلى الجماعات الدينية والطائفية». لذلك، فإنّه كان من غير الممكن، برأيه، التوصّل إلى «معادلات الوحدة الوطنية» في لبنان (والأردن) إلا ضمن إطار عمل ديمقراطي يأخذ في الاعتبار في المقام الأول الجماعة لا الحزب السياسي. يقول الصليبي: «وفي لبنان، فإن معادلة الوفاق الوطني الأخيرة بين الجماعات الدينية المختلفة كان لا بدّ من دمجها في نصّ الدستور بغرض جعلها مقبولة من قبل الجميع على أنها في صلب الديمقراطية اللبنانية»، وهي على الأرجح الصيغة المعروفة بـ «الديمقراطية التوافقية» ما بين «الجماعات الدينية - الطائفية» التي كانت ولا تزال عاملاً من عوامل توليد الأزمات السياسية المتعاقبة وكانت تنتهي في أغلب الأحيان بتسويات مرحليّة هشّة. في السياق، يرى محمود شريح «إنّ تأسيس الدولة يقترن بالفكر السياسي السائد وهذا الفكر ناتج أصلاً عن مُشتبَك علاقات اجتماعيّة واقتصادية وتاريخية، ناهيك عن روح الأُمّة في تنامي وحدتها النفسية ومتّحدها الجغرافي». يلفت شريح إلى أنّ الصليبي في مقالته «الاستشرافية» هذه «كَرَّ البصر في تركيبة المجتمع اللبناني بدءاً من الحرب الأهلية في ١٩٥٨ إلى الحرب الأهلية من ١٩٧٥ إلى ١٩٩٠ وقارنها بتركيبة مشابهة لها في الأردن من حيث الولاء الطائفي في لبنان والولاء القبلي في الأردن، فيما انصرف مسهباً إلى تفاصيل الصراع في لبنان بين قومية لبنانية وقومية عربية أو سورية إثر تفكّك الإمبراطورية العثمانية وتبعثر أقطارها السورية تحت الانتدابين الإنكليزي والفرنسي».

العروبة هي الحل؟
قد يبدو الكلام عن «القومية العربية» الآن ترفاً زائداً بالنظر إلى سياق الأحداث الراهنة التي أكدت غياب «الموقف العربي»، وبالقياس إلى فشل التجارب التي حملت لواء «القومية العربية» رغم تسجيلها بعض النجاحات النسبية. لكنه في بحثه حول «الانتماء العربي» للبنان، يرى الصليبي أن هذه الصيغة لطالما كانت ملتبسة قبل أن يحسمها اتفاق الطائف: «أكّد اتفاق الطائف على هوية لبنان العربية دون تحفظ فيما ألحَّ في الوقت نفسه على استقلال الدولة اللبنانية غير المشروط في إطار العائلة القومية العربية». ومع أن صيغة «الطائف» إياها لم تنهِ النقاش اللاحق حول عروبة لبنان وموقعه ودوره في المنطقة، إلا أنّها، من وجهة نظر الصليبي، مسألة ضرورية لتوفير عامل المساواة بين الجماعات (الطائفية) اللبنانية.
رأى الصليبي أنّ محرّك الصراع في لبنان هو بنية الفكر العائلية - الإقطاعية- المذهبية لا العامل الطبقي

يقول: «لتحقيق المساواة فيما بينها، لا يكفي أن تكون هذه الطوائف على قدم المساواة في ما بينها في لبنان فحسب، بل أيضاً بالقياس إلى المنطقة العربية التي ينتمي إليها لبنان. مثل هذه المساوة يمكن تحقيقها فقط على أساس الحس العروبي المشترك الذي يشترك فيه اللبنانيون جميعاً في ما بينهم وكذلك مع الشعوب العربية الأخرى المجاورة لهم». برأي الصليبي، فإنّ هناك إمكانية للتوفيق بين ما يمكن اعتباره «القومية اللبنانية» و«العروبة» بابتداع نمط «لا يحذو حذو القومية العربية الشاملة التي راج مفهومها في عشرينات القرن العشرين». ورغم الفارق في بُنيَة «النظامَيْن» اللبناني والسُّوري، ومع أنّ قيام حكومة مركزية قوية في سوريا كان يأتي دائماً على حساب الديمقراطية (وهذه مسألة تبقى قابلة للنقاش)، إلا أنَّ النموذج السوري القائم على الفكرة القوميّة العربية كان، برأي الصليبي، ضرورياً «بغرض الحفاظ على معادلة المساواة بين مختلف التجمعات المناطقية في البلاد، كما بين المسلمين السنة ومختلف الأقليات الدينية والطائفية». وكما في سوريا كذلك في الأردن حيث «تمّ التوصّل إلى صيغة ترمي إلى الأخذ بمبدأين في الاعتبار «أولهما حق الفلسطينيين في هويتهم الوطنية وثانيهما المساواة في العروبة، وبالتالي في حقوق المواطنين الأردنيين، كل الأردنيين، وبغضّ النظر عن أصولهم المناطقية».



شريح لـ«الأخبار»: نقل صورة لبنان من حيّز الأسطورة إلى الحقيقة
ينقل شريح عن «أستاذه» كمال الصليبي، أنَّ الأخير نبَّهه منذ البدء إلى ثلاثة مؤلّفات لولاها لضاع الكثير من تاريخ الفكر النهضوي العربي وهي: «تاريخ العرب» لفيليب حتّي، و«يقظة العرب» لجورج أنطونيوس و«الفكر العربي في عصر النهضة» لألبرت حوراني. يؤكّد شريح في حديثه لـ«الأخبار» أنَّ كتاب الصليبي «التوراة جاءت من جزيرة العرب» يُعدُّ «المفصل الأساسي في تطوّر فكره، إذ نسَفَ قواعد التاريخ الأوروبي لجغرافيا التوراة»، لافتاً، من جهة أخرى، إلى أنَّ الصليبي عدَّل في نظرته إلى تاريخ لبنان الحديث مع تنامي فكره السياسي وإعادة نظره في رواية تاريخ لبنان من عهد الإمارة إلى الآن. يرى شريح أن الصليبي ـــ وعلى عكس ما يعتقد كثيرون ــــ «لم يغفل أسباب الصراع الأخرى في تركيبة لبنان، وإن لم يسهب في تفصيلها، لأنه رأى في المقام الأول أن علاقات الجبل هي التي تحدّد وجهة سير تاريخه. إذ إنه رأى أن محرّك الصراع أساساً هو بنية الفكر العائلية - الإقطاعية- المذهبية». يضيف شريح: «ومن هنا كان ابتعاد الصليبي عن التحليل الطبقي، فهو أشار على الدوام إلى أن هذه التحليل لا ينطبق على التركيبة اللبنانية لخلوِّها من مظاهر الثورة الصناعية التي أصابت أوروبا في أعقاب تلك الثورة». يتحدّث شريح عن تطوّر الفكر السياسي عند الصليبي فيلفت إلى أنّ الأخير انضوى تحت راية القومية العربية عندما كان طالباً في دائرة التاريخ في «أميركية» بيروت، ثم ابتعد عنها ليعود إليها في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية «لاقتناعه بأن المسألة الفلسطينية هي البعد الحقيقي للتاريخ الحديث في دنيا العرب». يرى شريح أن الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان»، نقل «صورة لبنان التاريخية من حيّز الأسطورة إلى حيّز الحقيقة عبر دراسته تطوّر العوامل المحلية والإقليمية والخارجية التي تمخّضت عن ظهور الكيان اللبناني بحدوده التاريخية». من وجهة نظر شريح، فإنّ العودة إلى رؤية الصليبي في أصول كتابة التاريخ قد تكون خطوة إلى الأمام في تصحيح الكتابة التاريخية «إذ رأى هذا المؤرّخ الفذّ أنّ التاريخ موضوع يستوجب إعادة النظر المستمرّة في المادة المتوافرة، ولذلك فالعمل التاريخي لمجرّد التدوين فحسب تبقى قيمته محفوظة فيه. أما إذا كان تحليلاً وفهماً لواقع الماضي، فالمفترض فيه أن يكون مكمّلاً لما سبقه من أعمال أو ناقداً لها». وبناء على ذلك، يعتبر شريح أنه «من غير الممكن مثلاً فصل ما يحدث في سوريا الآن عما يحدث في بلاد الشام بأسرها بما في ذلك العراق، ذلك أنّ دمشق هي مركز الثقل في تركيبة جغرافيا الهلال الخصيب، ومن هنا ارتباط لبنان الوثيق بخواتيم الأمور في سوريا». يضيف: «كل ما طرأ على دول الهلال الخصيب منذ اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور أدّى إلى تفكّك السبحة القومية، ومن دون انتظامها لا حياة كريمة في سوريا الطبيعية. وعليه لا تستقيم تركيبة الهلال الخصيب وتستوي إلا في مناخ إرساء فلسطين حرّة وسط منظومة بلاد الشام ومن هنا تعرّض لبنان لاهتزازات دوريّة».