سواء اتفقت معه أم لم تفعل، فإنّ حديث المعماري المصري عبدالواحد الوكيل، أحد تلامذة المعماري الكبير حسن فتحي (1900- 1989) في «متحف سرسق» يوم الخميس، كان «نسمةً منعشةً» أو صفعةً للتيار المهيمن في العمارة في لبنان والعالم. ندوة تخللها نقاش بين المهندسة العراقية اللبنانية سلمى سمر دملوجي، والوكيل، والإيطالية فيولا برتيني خلال إطلاق كتاب «حسن فتحي: أرض ويوتوبيا». تمحور النقاش حول أعمال حسن فتحي وفكره، لكن أيضاً عن المقاربة المعادية لفتحي، تلك التي تجعل من كل ما هو «قديم»، محكوماً بعقدة التخلّف وفقدان الصلاحية.كانت دملوجي إحدى المعماريات اللواتي عملن مع حسن فتحي وتعلّمت منه، فجمعت أعمالاً ونصوصاً غير منشورة له، وعملت مع طالبة الدكتوراه الإيطالية فيولا برتيني (وأطروحتها عن أعمال فتحي) لإنتاج كتاب Hasan Fathy: Earth and Utopia. بغضّ النظر عن الكتاب، فالنقاش الذي شهده طلّاب ومتخصصون ـــ في ظلّ غياب أساتذة العمارة من الجامعة الأميركية في بيروت مثلاً ـــ كان أحد أمتع النقاشات عن قضايا التحديث والحداثة، والتراث المبني والثقافة.
بدأ الوكيل كلامه بحادثة خلافية بحدّ ذاتها: عندما كان رئيساً للجنة التحكيم إحدى المسابقات، اتّهمه أحد المعماريين الألمان بالتعلّق بالمشاعر، فردّ عليه الوكيل، ضارباً بعرض الحائط أساسيات الصوابية السياسية: «قل لي، ماذا جرى لكم في ألمانيا حين فقدتم المشاعر؟». الوكيل، تماماً كفتحي، أعاد النقاش إلى ما يراه أساسياً: جوهر العلاقة بين الإنسان والمكان والتاريخ، أي الانتماء وما يخلقه ذلك من شاعرية. «لدينا الحق ببناء مدننا كما نريد، من دون اتّهامنا (خاصة من غربيين) بالرومانسية أو العاطفية» يقول الوكيل.
وهذه المقاربة لديها من الأعداء أكثر بكثير من المحازبين في العمارة اليوم. إذ يُعتبر المدافعات والمدافعون عنها بأنهم طوباويون، أو مخرّبون لمسيرة تقدّم الشعوب. في مصر، يقول الوكيل، كانوا يقولون عن فتحي «حيجيبنا ورا الجاموسة». كما أخبرت دملوجي أنها عندما بدأت بالعمل مع فتحي، سألتها مجموعة من المثقفات والمثقفين من أثرياء القاهرة عنه، فلم يعرفوه إلّا عندما قالت بأنه يعيش في القلعة، فكان ردّهم «المجنون ده في القلعة؟!».
بشكل ما، وفي طريقة نقده للمعماريين والمعماريات المشهورين اليوم، أمتعنا الوكيل بنقد لاذع أضحك المشاركات/ ين، ليس بالضرورة لعدم إعجابهم بأعمال هؤلاء، لكن في الأساس للانبهار الذي أصبح يلفّهم مع أعمالهم، والهالة التي منعت أي نقد لهم وجعلت أي عمل أنتجوه أو سينتجونه، يحصل على إعجاب الناس قبل أن يروه حتى. سمّى الوكيل مثلاً لوكوربوزييه ـ أحد آلهة العمارة الحديثة ــ «هتلر» بكل بساطة. ضحك بعضهم في الصالة، صفق بعضهم، امتعض آخرون، واستغرب البعض الآخر. «نعم هو هتلر العمارة. لوكوربوزييه دمّر باريس قبل أن يستطيع هتلر تدميرها. هذا ليس إبداعاً، هذا تهشيم وهوس. هذا مرض حداثي. هم ليسوا معماريين، هم أكروباتيين، ينتجون الالتفافات والتعرّجات». واصل عبدالواحد الوكيل تدميره لشبه التأليه الذي أصبح يحيط بالمعماريات/ يين اليوم، قائلاً: «ليس المنزل ذا الفناء اختراع زها حديد»، منتصراً ولو لدقائق لمنتقدي حديد. «هو شكل موجود في أغلب الثقافات، هو تعبير عن القداسة. في هذه المنطقة، هو تنفيذ للنصوص القرآنية: الجنة على الأرض، الحديقة المحمية».
بعد لوكوربوزييه وزها حديد وجان نوفيل الذي شبّه أحد أبنيته بواقٍ «ذكري» عملاق، وصل سوط الوكيل إلى مجموعة الأغا خان. مَن يقولون بحسب الوكيل بأنه «لا يمكننا استعادة الماضي»، ردّ عليهم الوكيل قائلاً: «لكن الماضي معنا طوال الوقت. يعيش البشر في استمرارية مكان وزمان. وإن أزلنا التاريخ، يضربنا فقدان الذاكرة». وعند نقاشه مع أحد المعماريين عن سوء تصميمه، قال الوكيل بأن المعماري ردّ عليه: «هذا رأيك». فأجابه الوكيل: «لا آراء هنا. أنا أعمل تبعاً لمبادئ».
التراب، الآجر واللُبن، الحديد، الخشب، والمواد الخفيفة الثقل، كلّها مواد لا نراها في برامج طلّاب العمارة


في حديثه عن التاريخ والمبادئ، ظهّر الوكيل موضوعين مهمّين في إطار العمارة والبناء: إسكان الفقراء، والإنتاج الثقافي. بينما يتمّ التركيز على عمارة الفقراء كنموذج بائد أو فولكلوري، أوضح الوكيل بأن مقاومة الدخول في الحداثة (فتحي مثالاً)، نشأت من الحاجة للبناء بمواد يمكن الحصول عليها في ظلّ غياب الحديد والباطون، ممّا اضطرّهم للجوء/ إعادة اكتشاف المواد الطبيعية من لُبن وخشب وآجر وغيرها. اليوم، لا يمكننا إسكان الملايين من السكان بالباطون والحديد، علينا اللجوء مرة أخرى للمواد الطبيعية.
في حديثه عن الثقاقة، دخل الوكيل في سياق مزعج للكثير من الحداثويين، مشدّداً على عدم شرعية الانفتاح الكامل للثقافات الأخرى أو بين الثقافات: «يمكن تدمير ثقافة ما بالكامل، إذا ما قبلت هذه الثقافة كلّ شيء جديد/ غريب. على كل ثقافة أن تقبل أو ترفض ما هو خارج عنها، اعتماداً على معيار محدّد: إن كان يدمّرها أو يسهم في تطوير الثقافة عينها».
وأضاء الوكيل على دور كليّات العمارة في التسويق لإبداع لا علاقة له بالثقافة: «أن نكون مبدعين، لا يعني أن نكون مختلفين، مجانين. بل يعني اتّباع النظام، نظام الكونيات cosmology. لا حاجة للإبداع عبر الأشكال الغريبة. يمكننا استخدام التكنولوجيا لتطوير أشكال استخدام المواد ذاتها». اليوم، يتمّ فقدان الجزءين التقني والثقافي من تعليم العمارة في الكليّات: «لو كان الأمر بيدي، لأقفلت كل كليّات العمارة في العالم». ورداً على سؤال من الحضور عن علاقة الطالب بالمعلّم، تحدّث فتحي عن تلك العلاقة القديمة التي تُبنى على التواضع، كي يستطيع الطالب الانفتاح على ما يريد المعلّم أن يعطيه. وانتقل إلى الحديث عن العلاقة التي تربط البنّائين بالمعماريين/ ات، والفوقية التي يتعلّم المعاريون/ ات التعامل من خلالها معهم، علماً بأنّ البنّائين أصحاب حرفة ومعرفة كبيرة. هنا قال الوكيل بأن «هذا جزء من أزمة التعليم اليوم. لا يعمل الطلّاب بأيديهم. هم لا يعرفون كيفية بناء قبّة. هم بلهاء لدرجة أنّهم لا يريدون التعلّم، بل نقل نصوص ليكتبوا أطروحاتهم. هم لا يتعلّمون شيئاً، لا من النظرية ولا من العمل باليدين. حاولت خلال عملي كعميد لكلية العمارة، أن أغيّر البرامج التعليمية في هذا الاتجاه، لكنّ المدرّسين لم يقبلوا. يفضل المدرّسون النظرية على التطبيق في كليّات العمارة. ماذا يعلّمونهم إذاً؟».
وهنا تدخّلت دملوجي مشدّدة على الأزمة السائدة في كليّات العمارة اليوم، قائلة «إننا في هذه المنطقة نعاني من عقدة نقص أمام الأجنبي، فنحن لا نعلّم أعمال حسن فتحي في البرامج الأساسية لكليّاتنا. وفي الوقت نفسه، نشهد تدميراً لأحد أروع المباني وأكثرها إبداعاً في اليمن». ثم تكلّمت برتيني عن اكتشافها فتحي الذي لا يدرّس في إيطاليا إلا عبر منظور ضيّق ومبتور، عبر ربطه بالعمارة التقليدية بشكل فولكلوري-كاريكاتوري. اهتّمت من خلال أطروحتها، ببحث التراث والحداثة في أعمال فتحي، و«كيف كانت مقاربته المعمارية طريقة أخرى للنظر إلى الحداثة، أي اختبار مقاربة حداثية للتراث». وعبّرت برتيني عن اكتشافها بأن أعمال فتحي تتمتّع بمفهوم معاصر لاستقصاء السياق المحلّي، آخذةً في الاعتبار ميزة المكان والإحساس الذي يخلقه. إذ يركّز حسن فتحي ـ حسب برتيني ـ على «الاستدامة» لكن ليس بمنطق محدود، بل بشكلها الثقافي. «التراث ليس جامداً، ساكناً» علّق الوكيل، مضيفاً «إن تدمير ثقافتنا عبر الجامعات والفنانين والحكومات، هو أسوأ ما يحصل لنا اليوم. هذا أسوأ مخدّر للشعوب». «التراب، الآجر واللُبن، الحديد، الخشب، والمواد الخفيفة الثقل، كلّها مواد لا نراها في برامج طلّاب العمارة في منطقتنا»، أضافت دملوجي، وفي ما قالاه الكثير من المقاومة ضد الثقافة المهيمنة اليوم على رؤيتنا لمدننا وقرانا، بل لموقعنا على سلّم التطوّر.
ختم الوكيل حديثه قائلاً: «أنا لست ديبلوماسياً» ضارباً بعرض الحائط كل محاولات المواربة والمخاتلة، ومعبّراً من دون استحياء، عن ضرورة مجابهة الهيمنة والعمارة السيئة بشكل مباشر. عدم ديبلوماسيته ووضوح موقفه، كانا أبرز ما ظهر في هذا النقاش الممتع الذي أعاد لنا بشكل ما الشرعية في مساءلتنا لماهية التراث وماهية العمارة التي تطرح اليوم ضد الرومانسية والتعلّق بالماضي.