تعرَّفتُ إلى ماري حدَّاد في صيف عام 1969، في منزلها القائم في منطقة «زقاق البلاط» في بيروت، وكانت، آنذاك، في العقد الثامن من عُمرها. كانت مُصابةً بمرض تقوُّس الظهر بفعل وطأَة السنين التي راكمَتْها في رحلة العمر. لكنَّها كانت شامخة الرأس كعهدها عندما جابَهَت ظُلمَ ذوي القُربى الذين حكموا لبنان في أَربعينيَّات القرن الماضي، واعتدَوا على حرِّيَّتها الفكريَّة، خلافاً للدستور والقوانين. في تلك الحِقبة، استلَّت قلمها كما يُستلُّ السيفُ اليمانيُّ من غِمده، وأَعملَتهُ في كبريائهم وصلَفِهم، وظُلمهم وفسادهم، فعفَّرَت رؤوسهم، ولم تُخفضْ رأسها لأَحدٍ غير الله والحق! وقد خاطبها، عهدذاك، الصحافيُّ السوريّ الكبير جبران مسُّوح، صاحب جريدة «المُختصَر» الصادرة في بونس إيرس في الأَرجنتين، في رسالةٍ بعث بها إليها، في معرض دفاعه عنها، فقال: «الحادثُ بجُملته شبيهٌ بحادث دريفوس في تاريخ فرنسا. وحسبُكِ في هذا النضال أَن تكوني إميل زولا. ولكنْ لا بأس يا ماري. وعلينا أَن نُوقظ هذه الأُمَّة لإنقاذ ضميرها من الهلاك!».
كانت ماري حدَّاد أَديبةً مرموقة تكتبُ باللغة الفرنسيَّة، وتُجيدُها إجادة أدباءِ فرنسا الكبار. وكان القلمُ رفيقَ ساعاتها وسميرَ أَيَّامها، يشوقُه دوماً أَن يتسلَّل إلى يدها ليتبرَّكَ منها، ويُلملمَ ما أَمكنَه من قبَساتِ فكرها ليُعلِّقُها فوق القراطيس نُجيماتٍ تُضيءُ الدروب. صدَر لها كتاب «الساعات اللبنانيَّة» Les Heures Libanaises عام 1937، في بيروت؛ وهو مجموعةٌ من القصص القصيرة زيَّنها بعضٌ من لوحاتها الفنِّيَّة. وقد أَطلق المستشرق الروسيّ، فلاديمير بلوندين Vladimir Blondin، عميد كلِّيَّة الدراسات الشرقيَّة في جامعة سانت بطرسبورغ في روسيا، عليها لقب «المُنوِّرة اللبنانيَّة» أُسوةً بالمُنوِّرين اللبنانيِّين سليم البستاني (1848-1884) وجرجي زيدان (1861-1914) وفرح أَنطون (1874-1927) وجبران خليل جبران (1883-1931) الذين كانوا من روَّاد الحركة التنويريَّة الواسعة التي شملَت مصر وسوريا ولبنان وغيرها من الأَقطار العربيَّة في الستِّينيَّات من القرن التاسع عشر إلى جانب عددٍ آخر من المفكِّرينَ والأُدباء والسياسيِّين العرب التقدُّميِّين.

ماري حدَّاد في أَربعينيَّات القرن العشرين

وكانت ماري حدَّاد كذلك فنَّانةً موهوبة بدأَت مسيرتها مع الرسم عام 1920 بدافع الرغبة الشخصيَّة لا غير. لكنَّها عادت فحصَّلَت بعض التدريبات الفنِّيَّة، خلال عامَي 1924 و1925، على يد الفنان الفرنسي كوبير Kober الذي كان يمتلك مدرسةً للفن في بيروت، في ذلك الزمن. وقد اتَّسعت شهرتُها بسرعة نظراً لشَغفها الكبير في رسم البورتريه لبعض مواطنيها، وبخاصَّةٍ البدو منهم، ولمناظرِ الطبيعة الجميلة في لبنان، وحازت لقب «فنَّانة البدو» Bedouin Artist نظراً لاهتمامها الكبير بهذا الجانب الفنِّيّ، وإبداعها فيه.
في عام 1930، أَصبحت رئيسةً لجمعيَّة الفنَّانين اللبنانيِّين. وفي عام 1933، دعاها السفير الفرنسي في لبنان، الكونت دي مارتِِل Le Comte de Martel، إلى إقامة معرضٍ لأعمالها الفنّيّة في باريس، فلبَّت الدعوة. وقد كانت الفنّانة الأولى والوحيدة من لبنان التي مُنحَت القبول بالمشاركة في«صالون الخريف الخاصّ بالقصر الكبير» Le Salon d›Automne du Grand Palais.
بعد ذلك، أُقيم أَوَّلُ معرضٍ خاصٍّ بلوحاتها في غاليري جورج بِرنهايم Galerie Georges Bernheim في باريس، فاقتَنت الدولة الفرنسيَّة إحدى لوحاتها، وكانت تُمثِّلُ منظراً لجبلٍ في لبنان. وقد كتب الناقدُ الفرنسيُّ الشهير لوي ڤوكسِل Louis Vauxcelles، آنذاك، دراسةً قيِّمةً عنها خصَّ بها كاتالوغ بِرنهايم الفنِّي. واستمرَّ في دعمه لأَعمالها طيلة مسيرتها الفنِّيَّة. وقد بقيت حدَّاد تُتابعُ عرضَ أَعمالها كلَّ عامٍ في غاليري بِرنهايم، ولم تتوقَّف عن ذلك إلاّ في عام 1940 عندما اندلعَت شرارةُ الحرب العالميَّة الثانية. كما قامت بعرض أَعمالها الفنِّيَّة في لندن ونيويورك، فبرزَت كفنَّانةٍ مُتميِّزة في جناح جمهوريَّة لبنان في المعرض العالَميّ في نيويورك لعام 1939. وكان لها حيِّزٌ في «معرض كليڤلاند الدولي» لعام 1941.
اتَّصف أَدبُ ماري حدَّاد وفنُّها بنزعةٍ إنسانيَّة ومَسحةٍ جماليَّة هما في أَساس خلودهما على مرِّ الزمن. فكلاهما أَشبهُ بقبساتٍ مُضيئة فاضت من نفسٍ مُتساميةٍ شاعرة فيها من النُّور ومن التوق إلى الأَعلى ما يُجنِّبُها التعثُّر في الظُّلمة، ويُبعدُها عن جاذبيَّة الأَهواءِ والرغبات، ويَشيلُ بها صعوداً نحو عين الشمس!
تلك السيِّدة، بكلِّ ما كانت عليه من مثاليَّةٍ وخُلُقٍ رفيع، وجدَت نفسَها، هيَ وأُسرتَها، في أَحد أَيَّام عام 1942، في حضرة رجُلٍ تبيَّن لها بالدليل القاطع أَنَّه رجُلُ الحقيقة الخالدة؛ رجُلُ الهَدْي والمحبَّة والإيمان بالله وبالروح في عالَمٍ غارقٍ في المادية والفساد! رجل يعدُّ من أَبرز مُمثّلي الأَدب الإنساني، و«يأتي المعجزات، بفضلٍ من الله، من أَجل إثبات حقيقةِ وجوده، ووحدةِ أَنبيائه ورسالاته، ويُناهضُ التعصُّب بكلِّ أَشكاله، ويهزأُ بالأَمجاد والأَلقاب، ويؤمنُ بعدالة الله ويُسلِّمُ بمشيئته!
كان الدكتور داهش ذلك الرجُل! ولقد وجدَت ماري حدَّاد فيه ضالَّتها المنشودة، والحُلمَ الذي كان يراودها منذ الطفولة! لم تصدّق في البدء ما نُقل لها عنه، إلى أَن جاءَت إليه بنفسها، مُصطحبةً زوجها الأَديب جورج حدَّاد وبناتهما الثلاث، للتحقُّق من صحَّة ما سمعوهُ عنه. هناك، لمسَت الحقيقة لمسَ اليد، وشاهدَت بأُمِّ عينها ما سمعَتْه عنه بأُذنها، وأَيقَنت أَنَّ ذلك الطالعَ من وطن أَرز الربّ يَحمل أَمانةً سامية، لا لوطن الأَرز وأَبنائه فحسب، بل للدُّنيا بأَسرها وشعوبها قاطبةً، وأَنَّه لن يتوانى عن تأديتها مهما عظُمَت المصاعب وغلَت التضحيات!
وأَعلنَت تأييدها له في دعوته؛ وكذلك فعلَت أُسرتُها. ومُذذاك، لم يعد إيمانُها مقتصراً على السيِّد المسيح ورسالته فحسب، كونها مسيحيَّة المولد والنشأة، بل أَصبح يحتضنُ أَنبياءَ الله ورسالاتِهم، بلا استثناء، بمن فيهم النبيّ محمَّد (ص) ورسالته. وقد أَعلنَت وزوجها جورج حدَّاد عن قناعاتهما تلك على رؤوس الأَشهاد، ما أَثار عليهم أَقرباءَهم وسواهم من وجوه التعصُّب المقيت في لبنان مِمَّن كان لهم نفوذٌ في السُّلطة في تلك الحِقبة. لم يمضِ زمنُ طويل حتَّى تسنَّم صهرُها بشاره الخوري سدَّة رئاسة الجمهوريَّة، فراح يضطهد الدكتور داهش، مُقحِماً جميع السلطات القضائيَّة والأَمنيَّة والصِّحافة في الاعتداءِ عليه، بالظلم والافتراء، وخلافاً للدستور والقوانين. وقد أَدَّى ذلك الاضطهادُ إلى تجريد الدكتور داهش من جنسيَّته اللبنانيَّة، ونَفْيه إلى الحدود السوريَّة التركيَّة في محاولةٍ للقضاءِ عليه، بمُقتضى مرسومَيْن ظالمَيْن صادرَيْن عن رئيس الجمهوريَّة، من غير أَن يُقدَّم للمحاكمة، ومن دون أَن يُبلَّغ بما صدَر بحقِّه من أَحكام.
لكنَّه تمكَّن، بعد أَكثر من شهر، من العودة سراً إلى بيروت، مُرفَقاً بعناية الله. ومن مُحتجبه القسريّ فيها، احتكم إلى قلمه، سلاحه الوحيد في مواجهة مُضطهديه والدفاع عن قضيَّته العادلة، وفي المطالبة باسترداد حرِّيَّاته وحقوقه. وقد دامت تلك الحرب القلميَّة ثماني سنواتٍ متواصلة، ولم تتوقَّف إلا بعدما ثار الشعبُ اللبنانيُّ على ذلك العهد وأَسقطه إلى غير رجعة.
كانت القضيَّةُ في نظر الدكتور داهش قضيَّةَ الحرِّيَّة الفكريَّة بامتياز، فانبرى يُسجِّلُ أَحداثَها بنفسه في عشراتٍ من الكتب التي باتت تُقرأُ اليوم على أَنَّها جزءٌ من تاريخ الاضطهادات الكبرى في تاريخ الإنسانيَّة. وقد بدَت ماري حدَّاد من خلالها كالرئبالة الجريحة التي تأبى الضَّيْم، فلا تهدأُ حتَّى تَنتزعَ حقوق المَظلومِ من ظُلاَّمه! منذ اللحظة الأُولى للاعتداءِ عليه، استلَّت قلمها النبيل، وراحت تُدبِّجُ البيانات إلى أَبناءِ وطنها، وإلى رئيس منظَّمة الأُمم المتَّحدة، وسفراءِ الدول وقناصلها المُعتمَدين في لبنان، ورؤساء وملوك الدول العربيَّة، شارحةً لهم فيها حقيقة مبادئ الدكتور داهش وأَهدافه، وتفاصيل الجريمة المُرتكَبة بحقِّه، ومُطالبةً إيَّاهم بالتدخُّل العاجل لوَقْف تلك المَظلِمة وجرِّ مرتكبيها أَمام العدالة. وقد صدرت كتاباتُها تلك في كتبٍ عدَّة إلى جانب كتب الدكتور داهش؛ وكانت جميعُها طافحةً بأَخبار المظالم في البلاد وسرقات المسؤولين لأَموال العباد. والجدير بالذكر أَنَّ بعضاً من صِحافيِّي المهجر وأُدباءِ البلاد العربيَّة أَسهموا، هم أَيضاً، في إظهار الحقيقة في القضيَّة، من قبيل الدفاع عن الحرِّيَّات التي كانت في جوهرها. وقد كان أَسلطَهم قلماً وأَبدعَهم أُسلوباً وأَكثرَهم صرامةً في دفاعه الصحافيُّ جبران مسُّوح.
وكان من نتيجة تلك الحملة القلميَّة أَن أُوقفَت ماري حدَّاد، وسُجنَت أَكثر من مرَّة، وزُجَّ بها في مستشفى المجانين المسمَّاة «العصفوريَّة» لتقضي فيه 73 يوماً مع فاقدي نعمة العقل، بالظلم الرهيب. لكنَّ المسؤولين خافوا من مغبَّة التمادي في إبقائها خلف تلك الجدران المُرعبة، فأَطلقوا سراحها. وفور خروجها منه، كتبَت مذكِّراتها عمَّا شاهدته من جرائم ارتُكبت في ذلك المكان الجهنَّميِّ الحافل بالويلات. وقد رأَيتُ أَن أُقدِّم شذَراتٍ مِمَّا جاد به قلمُها ضمن البيان الذي رفعَتْه إلى أَبناءِ وطنها، وناشدَتهم فيه أَن يرفعوا الصوت عالياً ضدَّ الجَوْر، وأَن يحتجُّوا معها باسم الحقيقة وباسم الحرِّيَّة، على حدِّ قولها. وها هي:
«إنَّني أَشهدُ أَمام الله أَنَّ الدكتور داهش هو مثالُ النبالة والشرف. وهو بتعاليمه السامية يَنشُدُ أَرفَع وأَطهَر ما يصلُ البشرُ إلى معرفته من أَخلاقٍ كريمة وآدابٍ رفيعة، ويُعلنُ لإخوانه أَنَّ الحياة ليست إلَّا مرحلةَ تجربةٍ وتهيئةٍ لحياةٍ ثانية، وأَنَّ العدالة الإلهيَّة تقتصُّ من الأَشرار وتُكافئُ الأَخيار».
اتَّصف أَدبها وفنُّها بنزعةٍ إنسانيَّة ومَسحةٍ جماليَّة


«إنَّ الدكتور داهش يُنادي بالإخاء بين البشر قاطبةً مهما اختلفَت عناصرُهم وتعدَّدَت شرائعُهم، ويُبشِّرُ بضرورة التعاون بين أَفراد المجتمع ليزول الشقاءُ والفقر، مُعلناً أَنَّ الناس مُتساوون أَمام الله، وأَنَّ القُدوة الحسنة هي خيرُ موعظة...»
ويُوافيها قلمُ جبران مسُّوح، مُدافعاً عن الدكتور داهش وعنها، على غير معرفةٍ شخصيَّةٍ بكليهما، فيقول: «إنَّ داهشاً يفتكرُ بمقابلة كبار المُصلحين في التاريخ ليَبحثَ معهم حالَ هذه الإنسانيَّة التعِسة التي تنتقلُ من شقاءٍ إلى شقاء، ومن خطرٍ إلى خطر. هو يفتكرُ بهذا الشرق البائس الحزين الذي كان مهبطَ الذكاءِ البشريّ، فأَصبح أُلعوبةً بين أَيدي التخاذُل والانقسام. هو يَجمعُ أَقوالَ جميع المُصلحين الشرقيِّين ليَستخرجَ منها قوَّةً واحدة تَجمعُ الشمل وتُوحِّدُ الغايات وتؤلِّفُ بين القلوب...».
كما يُخاطبُ ماري حدَّاد، فيقول: «إنِّي أَحترمُ جهادكِ العنيف وصبركِ على مقاومة الخصوم... وهذا الحادث هو أَعظمُ حادثةٍ جرَت في الشرق في هذا الجيل. وإنِّي كلَّما قرأتُ تفاصيلها، أَرى ماري حدَّاد فوق الجميع. بل أَنتِ فوق لبنان، كلِّ لبنان.. لأَنَّكِ تدافعينَ عن مبدأ وعقيدةٍ دفاعاً قصَّر عنه جميعُ الرجال. اكتُبي لي لأَسمع صوت سلامتكِ، يا حمامةً بين قطيعٍ من الذئاب».

■ ■ ■

قُبيل اليوم الأَخير من عام 1972، حضرتُ إلى مستشفى «أُوتيل ديو» Hôpital Hôtel-Dieu في بيروت للاطمئنان على صحَّة ماري حدَّاد، فرأَيتها في شبه غيبوبة. وفي اليوم الأَوَّل من عام 1973، فارقَت الحياة، فرافقَها رهْطٌ من ملائكة الله إلى العالَمِ السعيدِ البعيدِ المُعَدِّ للأَبرار الأحرار من أَمثالها! في تلك الربُوع القُدسيَّة، غدَت تلك «المُنوِّرةُ اللبنانيَّة» نَجمةً سعيدةً تشعُّ في الآفاق، وتزيدُها نوراً على نُور! وقد ضمَّ «مُتحف داهش للفنّ» Dahesh Museum of Art القائم في «مانهاتن» في نيويورك بعض أَعمالها الفنِّيَّة. مَن يدري، فلعلَّ تلك الأَعمال تشعُّ، هي أَيضاً، بأَنوار الجمال الإلهيّ فتُضيءُ قلوب أَبناءِ الحياة!
* كاتبٌ لبنانيٌّ مُقيم في كندا