«حسناً أيها العصر، لقد هزمتني، ولكني لم أجد في هذا الشرق مكاناً مرتفعاً أنصب عليه راية استسلامي» (الشاعر محمد الماغوط)

ورغم ذلك يا عزيزي محمد، فلقد فردتُ جناحي وطرتُ واكتشفت الفضاءات الرحبة وأنا صغيرة.
لا أحدَ يختارُ عائلته، فالعائلة قدر لا مفرّ منه، لكني أشعرُ حتى اليوم كأني اخترتُ عائلتي، ولو فعلت لما كانت أجمل وأروع... وأجنّ من تلك العائلة الأشقرية المتنية. عائلة المغامرة الكبرى والمحبة الكاملة، عائلة الحلم بعالم أفضل وبوطن لجميع نسائه ورجالهِ وأطفالهِ من دون استثناء.
والدي المفكر والمناضل أسد الأشقر، ووالدتي رؤوفة خوري الابنة البكر لآل الخوري في رحبة عكار: رمزُ الشجاعة والإقدام والوطنية المنفتحة على حريةٍ تامة غير تقليدية... وجمال. ثم جاءت «المدرسة الأهلية» التي انتقاها والدي، فكانت تكملة لذلك الفكر النيّر. «كلية البنات الأهلية» مدرسة وطنية مدنية لا طائفية ذات قيم عربية صحيحة تعلّم الفرنسية والإنكليزية، لكن السيادة فيها كانت للغة العربية حتى صرت ما أنا عليه اليوم وقد تكونت شخصيتي وانطلاقتي الجديدة بفضل معلماتي: وداد قرطاس، سلمى المقدسي، نور سلمان، ندى بارودي وبالتأكيد املي نصرالله.
لم تضع «الأهلية» أي عراقيل فكرية أو عقائدية لتطوير تلامذتها، بل بالعكس كانت هويتُها واضحة ولغتها واضحة، وانطلاقتُها الوطنية أكيدة، لا لبس في التربية والتعليم كباقي المدارس الطائفية. ولولا عائلتي الأولى والثانية، لما تجرأت على دخول عالم الفن والثقافة من باب المسرح الرحب.
هذه الحرية الكاملة المطلقة للفكر والرأي والمعتقد من فصل الدين عن الدولة وإلغاء الطائفية وترابط المجتمع الواحد، كان قد حفّزها فينا أنطون سعادة. أما عائلتي الثانية وليست الأخيرة، فتلك التي جمعتها بدموع العين وانتقيتها على «الطبلية» كما نقول بالدارج. هذه العائلة العالمية حضنتني أينما سافرت في العالم بكل محبة ودفء، فلم أشعر بالغربة في أيّ بلد، عربياً كان أم أجنبياً. فلقد جَعَلت من عالمي حديقة ورد متعددة الأصناف والألوان لا تجمعها إلا الصداقة والتقدير والاعتناء.
لم أود أبداً أن أعيشَ على غير هذه الأرض لا في أميركا ولا في أوروبا، ولا في أي مكان آخر. انتقيت هذه الأرض التي حضنتني وشربت من مائها العذب وارتويت من ناسِها ورغبتُ دائماً أن نعيدَ صياغتهَا وصياغة مفرداتِها ولغتها وأحلامِها.
وأتمنى أن لا أفارق هذه الدنيا قبل أن أشرب من جديد من الليطاني، نعم الليطاني وأغسل وجهي وأشرب من ينابيع بلادِنا، وأن لا أفارق هذه الدنيا قبل أن آخذ «التران» من طرابلس إلى بيروت دمشق بغداد، وآخذ الطائرة وأشاهد سقوف بيروت وحدائقها الخضراء وأسبح في بحرها النظيف بكل أمان، وأزور مسارحها في كل قرية ومدينة ومكتباتها العامة وأشاهد بأم عيني المستشفيات مفتوحة مجاناً والمدارس والجامعات في متناول الجميع، وتكون المدرسة الرسمية أفضلها جميعاً وأكثرها انفتاحاً. مدرسة ومكتبة وجامعة للجميع. هذا ما أود أن تصبح عليه بلادنا قبل أن أرحل. كما أني أتمنى أن أشاهد شوارع بيروت مزدانة بأسماء الشعراء والأدباء والفنانين والعظماء من بلادنا.
وأتمنى أن تتحول كل موانئ لبنان: طرابلس، جبيل، البترون، جونيه، بيروت، صيدا، صور إلى محطات للسرفيس البحري ينتقل من خلاله المواطنون إلى منازلهم براحة تامة.
وأن يكون هناك سوق مشترك مع بلدان المشرق ليستفيد منه خاصة المزارعون والصناعيون والحرفيون والمثقفون.
أود أن أزورَ القدس وأقرأ الشعر في كل مدينة على أرض فلسطين المحررة


وأود يا صديقاتي وأصدقائي أن أزورَ القدس... وأقومَ بعمل مسرحي كبير وأقرأ الشعر وأغني في كل مدينة على أرض فلسطين المحررة، وأرقص أمام كلّ زيتونة اقتلعت من أرض فلسطين كي تنبت من جديد.
وأخيراً، أود أولاً أن أشكر رئيس الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتور جوزيف جبرا الذي اختار تكريمي هذه السنة وأشكر الأساتذة وكل القيمين الذين شاركوا في هذه الاحتفالية. وأخص بالذكر الدكتور جاد ملكي، وندى طربيه، وندى دحدح، ولينا أبيض التي قدمت كل دعم ممكن، والتلامذة الذين بذلوا كل جهد لتحقيق الفيلم الوثائقي مع المخرجة وكاتبة السيناريو سابين شمعة ومخرج المسرحية عوض عوض وعمرو سليم والعزيزة برناديت حديب ومي نصر. شكراً لكم جميعاً.
كما أشكر مجلس أمناء «جمعية مسرح المدينة للثقافة والفنون»، وخاصة عضو المجلس ناجي صوراتي الذي لم يتوان يوماً عن دعم المسرح والوقوف معنا دائماً بكل الأزمات وما أكثرها. وأشكر أسرتي في المسرح لؤي رمضان، محمد فرحات، صلاح عيسى وجمال طوقان، وكل الذين واكبوني في «مسرح المدينة» من دون أن أنسى أسامة العارف، ولا ابنه المحامي عارف العارف. وأود أن أخص بالشكر تلك التي كانت ما زالت المستشارة والراعية لكل عمل فني قمت وأقوم به حتى الآن الدكتورة منى كنيعو.
وأخيراً أشكر شريك عمري ومن دعمني طوال حياتي وحبيبي وصديقي فؤاد نعيم...
لولاك لما استطعت أن أكمل هذه الطريق الشاقة.

* كلمة المسرحية اللبنانية خلال تكريمها قبل أيام ضمن فعاليات مهرجان NEXT السنوي بمبادرة من «الجامعة اللبنانية الأميركية ــ LAU»