أحد أبرز السِجالات التي أثارتها إعادة قراءة فرويد تدور حول مفهوم «الأنثوية السلبية». مفهوم لا يمكن أن يُصنف تحت أي خانةٍ إلا الذكورية. إذ يعتبر أن الأنثى صاحبة طبيعة انفعالية غالباً مقابل طبيعة فاعلة ذكورياً. حظيت هذه الفكرة لوقتٍ طويل بنقدٍ نسوي ضروري وناجع، حتى من داخل مدارس التحليل النفسي. ما يميّز صبا محمود (1962 ــــ 2018)، في نقدها، أنها انتبهت إلى عشوائية استخدام المصطلح على حساب المنهج. في أحد أعمالها البحثية عن علاقة بين النظرية النسوية والصحوة الإسلامية المصرية، لفتت إلى أن الطبيعة التقية، أو «الذوات التقية»، للحركة في المسجد، ما زالت تعتبر أمراً مزعجاً للدراسات النسوية. فالنساء في تلك الحركة تابِعات لنظام لا ينظر إليهن تقليدياً إلا تابعات، والأهم، أنهن داخل المسجد تحديداً، يحاولن اكتساب فضائل تسبغهن بأنثوية سلبية. وهذا المِثال، ليس لدراسة صبا محمود نفسها، إنما للإشارة إلى وعيها لصعوبة البحث الأنثروبولوجي في الميدان الشائك. فهي ردّت في كثير من أبحاثها على «الماينستريم» الليبرالي، رافضةً أي إجابات تقترح على المرأة أن تعيد إنتاج الهيمنة الذكورية، أثناء محاولتها مقاومة وهدم المعاني المهيمنة للممارسة الثقافية. فالنسوية التي تعدّ جزءاً مكوّناً وأساسياً في الباراديغم الليبرالي ــ العلماني، ليست نسوية مُطلقة أو نهائية. لذلك دارت أبحاث صبا محمود في إمكان وجود إعادة توظيف للممارسة الثقافية لتيسير مصلحة نسوية.تكتسب دراستها عن مصر وعن المصريات أهمية مضاعفة، كونها نوعاً من إثنوغرافيا ــ دينية للنساء المصريات في المساجد، أو بالتحديد حركة النساء داخل المسجد في المدن (بين داعيات ومريدات). والمدينة (القاهرة) نقطة هامة لم يفت صبا محمود الإشارة إليها، رغم أن المترجمين والباحثين لا يميّزون كثيراً، بل يستحوذ العنصران الأساسيان في الدراسة على اهتمامهم، ونقصد هنا المسجد بوصفه إحالة إلى الإسلام، والمرأة كجوهر الدراسة النسوية. وإن كانت محمود على علمٍ بأن بنية المجتمعات الذكورية تقوم على أرضيةٍ مشتركة وهي تجاهل مصالح المرأة وقمعها آلياً. نتحدث هنا عن مستويات إعلان الذكورية عن نفسها، لا عن وجودها بحدِّ ذاته، وهذا الإعلان يتفاوت بين الخطاب الذكوري بصيغته الساذجة عن المطبخ والإنجاب والزواج، وبين إعادة إنتاج هذا الخطاب لنفسه بخبثٍ لا متناهٍ.
في موازاة ذلك، يلاحظ الباحث في أعمال صبا محمود، تعلّقها بأمانة البحث وأصوله. فهي تميّز بين دراسات نسويات الطبقة الوسطى اللواتي يأتين من خلفية بيضاء، وبين التيار النسوي الأميركي من أصول أفريقية، في تحديد فهم المقاصد الأساسية للنسوية، كالحرية. هكذا، وانطلاقاً من معرِفتها بوجود عمل حقيقي من أجل فهم أكثر جدية للفروقات بين الطبقات إضافة إلى إيلاء المسألة الإثنية حيزاً في الدراسات النسوية، ذهبت بشجاعة إلى حقل أكثر صعوبة، حيث الاختلاف الديني الذي لم ينَل المساحة الملائمة في الأبحاث. الملاحظة الأولى في عمل صبا محمود القاهِري وفي جميع أعمالها ــ والملاحظة المحايدة بحدِّ ذاتها هي أداة أنثروبولوجية أساسية غائبة عن كثير من الدراسات ــ هي أن الحياة بالنسبة للنساء في المسجد مثّلت لقاءً استثنائياً لهن مع الدين. ذلك أنه لوقتٍ طويل ظل محصوراً بالرجال. والأهم، أن رفض هذه الملاحظة من الباحثين كان يقوم على اختزال التعقيدات بأفكار بسيطة، فكما أن الحركة في المسجد تُحصر بالرجال، يُحصر حضور المرأة في المسجد بالرجل، من المفكر الذي يفيض عداؤه للمسجد على أي إشكالية نسوية في بحثهِ.
في الأساس، ثمة من لن يعترف بوجود مجتمعات ما بعد كولونيالية، وهي المجتمعات التي درستها صبا محمود. لوقتٍ طويل كان هدف الأنثروبولوجيا دراسة «المختلف» بدون إضافات التاريخ والحداثة، بهدف تأكيد المركزية الأوروبية، صاحبة الخصوصيات التي ترصّع سردية العالم الحاكمة حالياً. ويجب التذكير بهذا دائماً، خاصةً عندما نتحدث عن المرأة في الأنثروبولوجيا، أو عن عدم حضور المرأة في سياق دراسة الأنثروبولوجيا. لأن ذلك يعيدنا إلى النقطة الأولى، حيث استخدمت هذه المعرفة لخدمة تصورات مسبقة لتأكيد المركزية الأوروبية. وهذا دارج في النسوية المعاصرة، التي لا تملك أي أدوات أنثروبولوجية، وتستهلك قيماً ليبرالية بابتذالية مفرطة. في هذا السياق بالذات، تأتي قراءتها الأنثروبولوجية للصحوة الإسلامية، التي لا يجب أن تكون مسيّسة. وهذا كان واضحاً طوال الوقت. لكن ما هو واضح أيضاً أن التيارات النسوية الليبرالية مسيسة على نحوٍ «أنطولوجي». في أعمالها، أرادت صبا محمود أن ترد على جميع الافتراضات التي كانت سمتها الأساسية معيارية ــ ليبرالية، وتدور حول الحرية والفاعلية، وكانت تستخدم لإصدار الأحكام المسبقة على الحراك الاجتماعي قبل دراسته. كانت لديها هواجس أكثر أهمية من الناحية الأكاديمية، وبفعل العمل الميداني مع الهامشيين في مصر وباكستان والولايات المتحدة، وصلت إلى خلاصات أنثروبولوجية أساسية، حيث يحاول هؤلاء الناس طوال الوقت فهم لماذا يحاربهم العالم، ولماذا العيش الهادئ صار مستحيلاً. ما اكتشفته صبا محمود أن الهامشيين يسعون إلى اختراع الإمكانية، عبر تطويع الممارسة الثقافية. ومن نافل القول إن الهجوم الليبرالي عليها يضمر دفاعاً مبطناً عن قيم الرأسمالية.
لاحظت محمود في أواخر التسعينيات أن تلك الفترة «استثنائية» دينياً في تاريخ العلاقة بين المرأة المصرية والإسلام


ليس هناك حاجة للتأكيد على أن الحركات الإسلامية هي مستوعب ناشئ لا يحوي الحقيقة، يعني لا يحوي إجابات على الأزمات الاقتصادية والفروقات الاجتماعية الكبيرة، لكنه مكان لتأطير الأسئلة بدلاً من تقديم أجوبة. ولذلك، أكثر من أي وقت، ولفهم أثر الإسلام السياسي في أحداث يناير ربما، أو في المشهد المصري الحالي، يجب العودة إلى دراسات من نوع الدراسة التي قامت بها صبا محمود. وقد أثبتت النتائج، أن التعامل مع الإسلام كما لو أنه حالة قابلة للتجاهل أو أن قمعه أسهل من التعرف إليه عن قرب، ليس كارثياً من الناحية الأخلاقية فحسب، بل إن النتائج تأتي على قياس الخطأ الأخلاقي. في مصر، لاحظت محمود، في أواخر التسعينيات (1995ـــــ1997)، وهي الفترة التي عمِلت فيها ميدانياً في القاهِرة، أن تلك الفترة «استثنائية» دينياً في تاريخ العلاقة بين المرأة المصرية والإسلام، حيث تنامى عدد النساء داخل المساجد بشكلٍ هائل. وللعرض، قبل التفكيك، تقول إنه كان حضوراً في مكانٍ يدور حول الذكر في الأساس، ما يعني حدوث اختراق ــ ولو معنوي ــ في البيداغوجيا الإسلامية. وفي مصر كما في غالبية الدول ذات الطابع الإسلامي، للمسجد دور أصيل في «الصحوة»، وهو عنوان أهم كتب صبا محمود.
ما هو لافت أنّ النقد الذي تعرضت له من الليبراليين كان نقداً تقليدياً، يخشى توظيف الإسلاميين لأي معرِفة، قبل أن يُساجِل في المعرفة نفسها. وفي موازاة ذلك النقد الليبرالي للإثنوغرافيا التي طبعت عمل محمود، فإن المسجد نفسه ـــ وبحسب أبحاث أخرى كثيرة، ومن بين جملة عوامل أخرى ـــ قد يكون صاحب دورٍ في سواد ليبرالية سلبية في مصر. لسيرة الليبرالية، يجب الانتباه إلى أن معظم الانتقادات الليبرالية الموجهة إلى صبا محمود كانت تضمر وعياً ذكورياً كريهاً في مكانٍ عميق داخلها. فهو ليس نقداً سببه لصاحبة الأصول الباكستانية فحسب، بل هو نقد كان يُقصد به نقد طلال أسد، أستاذ صبا محمود. ولسيرة أسد، ربما ليس هناك أي إضافة في الإشارة إلى أن التمييز الليبرالي بين فوكو وبين المتأثرين به، الذي يميّز بدوره بين بنية تحتية سوسيو ــ اقتصادية وبنية فوقية أيديولوجية، هو سمة ليبيرالية، هدفها الأساسي هو القطيعة مع فوكو نفسه.