أسماء مصريّة كبيرة خرجت من «روض الفرج» أو مرّت عليه. الحيّ الشعبي المنبسط شمال القاهرة كان قديماً مركزاً للمسارح والاستعراض والتجمّعات الفنيّة. فرقة علي الكسّار، وإسماعيل ياسين، وأمينة رزق، وماري منيب، وفاطمة رشدي، ومدحت صالح، أمثلة على تاريخ المكان وريادته في الحركة الفنيّة المصريّة. فريد شوقي وتحية كاريوكا وناهد يسري ومجدي وهبة لعبوا بطولة «روض الفرج» (1987) لعبد الفتاح مدبولي. أحمد الناغي قدّم مسرحية بالاسم نفسه. على مدى سنوات، ضمّ الحي سوق الخضار المركزي في القاهرة. هناك، تمّ تصوير «سلام يا صاحبي» (1987) لنادر جلال. من يمكن أن ينسى «مرزوق» و«بركوتّة» و«خوليو» و«الملك» في التعاون السينمائي الأشهر بين عادل إمام وسعيد صالح؟ربّما لم تعلم ريم صالح كلّ ذلك، إذ تتعرّف إلى المنطقة للمرّة الأولى. السينمائيّة اللبنانيّة (1979) تصلها للمرّة الأولى بهدف محدّد: تنفيذ وصية والدتها المصريّة. هذه الأخيرة ما زالت متعلّقة بمسقط رأسها بعد حوالى ثلاثين عاماً على الغياب، فأوصت أن تُدفَن هناك. صالح تستكشف عالماً جديداً. كثير من الفقر والجهل والحرمان، كما كثير من الطيبة و«الجدعنة» وحلاوة الروح. لم يعد «روض الفرج» أيقونةً فنيّة كالأيام الخوالي، ولكن يمكن تفهّم إصرار الأم على العودة إليه. هكذا، تتقرّب ريم من أهل «الحتّة». يلفتها اعتمادهم على «الجمعيّة» لتدبير أمورهم. ادفع بضعة جنيهات بشكل دوري، لتعود إليك مبلغاً وازناً في موعد محدّد. «ثروة» صغيرة تساعد في بدء تجارة صغيرة، أو شراء «مكنة»، أو حتى تزويج ابن. القاعدة بسيطة حسب منظّمها الشيخ عادل: «اللي محتاج هو اللي ياخدها الأوّل». «أم غريب» و«نجوى» و«أم طارق» والطفلة «دنيا» تدركن ذلك جيّداً.

«الجمعيّة» دليل مبشّر على نيّة مخرجته صنع سينما جادّة، ومؤثّرة، ومخلصة لذاتها وناسها

هنا، تولد فكرة وثائقي «الجمعيّة» What Comes Around (2018ــ 79 د). عرض أخيراً ضمن قسم «السينما المصريّة الجديدة 2017 – 2018» في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الأخير. نعم، الموضوع مصريّ بحت، بل إنّه موغل في ذلك. قسم من الإنتاج أيضاً. للصانعة أصل مصريّ من جهة الأم. لذلك، يمكن نسبه إلى السينما المصريّة أوّلاً، وإلى الجديدة منها ثانياً، سواءً في المعالجة والمنظور والأسلوب، أو حتى وفقاً لعام الإنتاج. منذ فترة، شاهدنا افتتاحه الشرق أوسطيّ الأوّل في «مهرجان الجونة السينمائي»، منافساً على جوائز الوثائقي الطويل. سبقه تجوال دوليّ، بدءاً من «بانوراما» برلين، ثمّ «العروض الخاصّة» في سراييفو. بعد «الجونة»، انتقل إلى مالمو للسينما العربيّة، ضمن مسابقة الوثائقي الطويل...
الجمعيّة كنظام تكافلي شعبيّ، مدخل مثالي لعمل فيلم عن أناس هامشيّين، وبيئة من صميم واقعهم. لماذا؟ أوّلاً: رابط سردي مناسب بين شخوص الشريط وعالمهم وهمومهم. لأيّ غرض بالتحديد يشترك كلّ منهم بالجمعيّة؟ ما حكايته بالضبط؟ ماذا سيفعل بالمال؟ ثانياً: يظهر هؤلاء الفقراء أصحاب نفس عزيزة. قادرين على تيسير شؤونهم بكرامة، من دون حاجة لأحد. «الفقر فقر نفوس، مش فقر فلوس». ثالثاً: إيجاد حلول من هذا النّوع، يعني خلق فرح، ومنح أمل. نوع من التحقق المؤقت. يبعد الشريط عن الميلودراما والاستجداء، على الرغم من ضنك العيش.
إذاً، تحترم ريم «أبطالها» منذ البداية. تتفهم طرق تفكيرهم، من دون حكم أو تدخّل. عدستها تطبطب على قلوبهم بحرص. لا تفرض رأياً أو موقفاً، بل تعايش وتسجّل. تحقيق ذلك لم يكن سهلاً، مع شخوص غير معتادين على الكاميرا، بل إنّ بعضهم ينظر لها بحذر وريبة. صالح تستفيد من نصفها المصريّ. يعتبرها السكّان واحدةً منهم. إصرارها على تحقيق رغبة أمّها، يجعلها أصيلةً في نظرهم. يفتحون لها قلوبهم. كونها امرأة يسهّل الأمر. بالتأكيد، لم يكن رجل ليتمكّن من دخول البيوت، ومعرفة خصوصيات، في منطقة محافظة كهذه. ريم تتحلّى بالصبر الجميل بدورها. تصوّرهم على مدى 6 سنوات. منها 8 أشهر مقابلات وتسجيلات «غير مفيدة»، ليعتادوا المعدّات والطاقم، وصولاً إلى نسيان وجودها.
لم تأتِ هذه العقليّة من فراغ. إلى جانب تخرّجها من الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة (راديو وتلفزيون وسينما) عام 2003 بفيلم «بالعين المجرّدة» (2002، 12 د.)، تلقّت ريم صالح دروساً في علم النّفس. في 2003 كذلك، أخرجت مسرحية «الأجنحة»، تأليف آرثر كوبيت. عملت كمساعدة مخرج في إنتاجات عدّة، منها «لمّا حكيت مريم» (2001، 98 د.) لأسد فولادكار. شاركت في إنتاج مشاريع لصالح قناة MTV اللبنانيّة وشبكة روتانا، قبل أن تنتقل إلى قطر عام 2006. اشتغلت في قناة الجزيرة للأطفال في الإنتاج والتعليق الصوتي، ثمّ انضمّت إلى «مؤسسة الدوحة للأفلام». توّلت مهام نائب مدير «مهرجان أجيال السينمائي» لأربع سنوات. أيضاً، لها تجارب قليلة في التمثيل.
هكذا، تنجح ريم في خلق الألفة. تصوّر في المنازل والأزقة والمحلّات والمقاهي وحتى المقابر. تواكب تحوّلات نفسيّة واجتماعيّة. «أم غريب»، زوجة الشيخ صالح، هي الشخصيّة المفتاح. مثال المرأة المكافحة، والصبورة، والمربيّة، والرقيقة في آن. الاهتمام بالعائلة، ومساعدة الغير لا يعني أنّها بمنأى عن الصدمات. ابنها يتزوّج، ثمّ يطلّق، ليقترن بأخرى. الأهل والأصدقاء فخورون بإنجازه الأحمر على قماشة بيضاء ليلة الدخلة. الشيخ صالح ينحو باتجاه التصوّف، حتى على حساب أهل بيته. «دنيا» فخورة بسعيها إلى الختان بنفسها. انفتاحها أمام الكاميرا لافت بالفعل. كلّه من نقود الجمعيّة وتفرّعاتها بطبيعة الحال.



حضور المرأة بارز ومهيمن صناعةً ومحتوى. صحيح أنّ طبيعة المكان متوقعة، بما يقع على نسائه من قهر ذكوريّ، إلا أنّهنّ يظهرن جانباً مقاتلاً أيضاً. يعبّرن بجرأة مدهشة. يتصدّين لأعباء ثقيلة، كما «نجوى» و«أم طارق». هنّ قادرات على البوح والفعل والمجابهة والتغيير، من دون إغفال ضعفهنّ وانكسارهنّ، أمام ظروف كفيلة بقهر أيّ رجل. عموماً، لا يمكن تجاهل أنّ المرأة ورقة رابحة في السينما العربيّة اليوم، مع بروز حركات #Metoo و #TIMESUP، سواءً من حيث الصناعة أو المواضيع. اجتماع العنصرين زيادة الخير خيرين. معظم العناوين العربيّة في مهرجانات السينما الكبرى هذه السنة من توقيع مخرجات، مثل نادين لبكي، ونرجس النجار، ومريم بن مبارك، وسؤدد كعدان، وغايا جيجي... هذه ملاحظة إحصائيّة. لا تُنقص من قيمة المنجز بحدّ ذاته. لا تتناسى حضور الصنّاع الرجال بتواتر دائم.
بيد أنّ مضمون «الجمعيّة» ينضح بالحياتيّة. يوغل بسلاسة في الاجتماعي واليومي المصري، مصدّراً مثالاً هامّاً على الشق الوثائقي من «سينما القاع». في المقابل، ثمّة هامش لدفء وعذوبة وبسمة وجماليّات صنعة، رغم خشونة المحتوى. هذا عائد لذاتيّة المخرجة. اختيارها كيفيّة إظهار رؤيتها. تركها مساحة تخصّها للاشتغال الفنيّ. أقصى حدّ من الأفلمة، على حساب التقرير والريبورتاج والاستقصاء المجرّد. ذلك معزّز ببناء روائي ضمن التسجيلي. مراعاة الربط السردي، وإن تفلّت أحياناً نحو تشعّبات جانبيّة. توليف مشدود. حبّ الحدث والتصعيد. إعادة تمثيل مشاهد فاتتها، أو تصويرها خصّيصاً من أجل الشريط (اجتماع الجمعيّة في البداية مثلاً). من الواضح أنّ الروائي حاضر في ذهن ريم دائماً. ها هي تكتب أوّل أفلامها الروائيّة الطويلة، عن نساء أيضاً.
المضمون ذكيّ كذلك. هناك إحالات كبيرة، من تفاصيل وإشارات. مثلاً، لا نرى الشخصيّات خارج محيطها، إلا في المقابر. كأنّ هؤلاء المسحوقين، محدودي الأحلام والطموح وعدد وجبات الطعام اليوميّة، مقدّر لهم ألا يغادروا واقعهم سوى إلى الآخرة. هذا مشحون بالاحترام المصريّ الكبير للموت منذ القدم. كذلك، لا سياسة في الشريط، على الرغم من مواكبته أكثر الأعوام سخونةً وحساسيّة (2011). لولا كتابات الجدران لما لاحظنا ذلك. السبب، ببساطة، أنّ السياسيّ خارج السياق الدراميّ. كلّ التغييرات في نشرات الأخبار، لم تؤثّر في حياة سكّان «روض الفرج». توالي الأسماء لا يغيّر بؤس معاشهم، فيما يمرّ قطار الحياة على طرف الحيّ. هم يدركون ذلك. يعتمدون على أنفسهم للنجاة والاستمرار، على عكس «نوّارة» (2015، 122 د.) لهالة خليل، عندما خاب أمل الغلابة في الثورة بعد عشم وترقّب. هنا، تظهر تعليقات عن «تشويه صورة مصر» من قبل لبنانيّة، بتوثيقها وجهاً لا يمكن اعتماده في كتالوغات السياحة. أقاويل بلا قيمة نقديّة، مصيرها النسيان أمام جمالية الفيلم وتأثيره. في النهاية، يبقى «الجمعيّة» دليلاً محترماً ومبشّراً على نيّة مخرجته صنع سينما جادّة، ومؤثّرة، ومخلصة لذاتها وناسها وموضوعها ومعالجتها.