لندن | طالما قال المسرحي الألماني المعروف برتولد بريخت باستحالة فصل الفنون عن السياسة. كل فنّ - سينمائياً كان أو غير ذلك - مهما بدا محايداً، هو في النهاية تعبير عن موقف سياسي للمؤسّسة المنتجة له. لكن دعنا ننسى بريخت قليلاً ولنأخذ بنصيحة العميد ميري ريجيف وزيرة الثقافة الإسرائيليّة، التي هنّأت مواطنها المخرج ناداف لابيد على الفوز بـ «دب» برلين الذهبي، لكنها دعت إلى التروّي في مشاهدة فيلمه «مترادفات» قبل أن نحكم عليه. لذا يجب أن نضع جانباً أن لابيد الكاتب وصانع الأفلام الإسرائيلي والمجنّد السابق في جيش الاحتلال ـ كما معظم الإسرائيليين والإسرائيليات ـ يحاول موضعة نفسه على الساحة الثقافيّة كناقد بأدوات سينمائيّة لمآزق الهويّة الإسرائيليّة من النوع الذي تحبه وترضاه المؤسسة الصهيونيّة (فيلم Policeman أو «الشرطي» 2011 و The Kindergarten Teacher أو «معلّمة الحضانة» 2014)، وأن منتج الفيلم هو سعيد بن سعيد التونسي المتفرنس والمتطرّف في حبّ إسرائيل وكراهيّة العرب، أو حتى الاعتبارات السياسية الضمنية لكن الحاسمة التي تحكم عمل منح الجوائز ذات الطابع الثقافي في الغرب، بداية من «نوبل» السلام (هنري كيسنجر فاز بها 1970) وانتهاء بمهرجانات السينما والموسيقى والأدب... فكيف ببرلين التي ما زالت تعيش تحت هاجس كوابيس الهولوكوست ومشاعر الذنب الجمعيّة العميقة منذ سبعين عاماً؟ سنضع كل ذلك جانباً ولنتحدّث عن الفيلم المتوج بالذهب الألماني من الناحية المهنية الصرف.
توم ميرسيه في الفيلم


مَن يعرف المزاج الحاكم في أوروبا هذه الأيّام، لا سيّما بين المثقفين، يدرك حتماً كثافة ضباب القلق الهوياتي الذي يضرب أطنابه من أقصى القارة إلى أقصاها، ويدفع بالشعوب إلى التنقيب عن هويّات وطنية كانت ذبلت لبعض الوقت بعد خراب الحرب العالمية الثانية ولاحقاً تمكّن المنظومة الرأسماليّة الليبراليّة المعولمة الطابع من إحكام سيطرتها على معظم الكوكب، وتراجع سيادات الدول الوطنيّة لمصلحة عصر «الباكس أميريكانا» الجديد. صراع الهويات المستعادة هذا أتى كاحتجاج على الفشل الاقتصادي الشامل الذي مسّت نتائجه القطاع الأعرض من المواطنين، لا سيما بعد أزمة الـ2008، وما لبث أن تقمّص على أيدي سياسيين شعبويين لباس العداء للمهاجرين، وللأقليّات، وملامح موجة مستجدة من العداء لليهود والمسلمين.
لذا، فإن فيلماً يدّعي التأمل في هذه القضايا، سيحظى بلا شك باهتمام النخبة الأوروبيّة، فما بالك بفيلم يأتي بالهوية الإسرائيليّة الأشد تعقيداً واختناقاً بما لا يقاس ويعِد بقراءتها في مواجهة هويّة أخرى، اكتسبت ــــ في نموذج باريس ولو على صعيد كليشيهات أُفرط في استخدامها حتى فقدت معناها تماماً ــــ هويّة كوسموبولاتينية نقيضاً للإسرائيليّة ورمزاً للحريّة والأنوار والمساواة (إذا سمح لنا ذوو السترات الصفر). عربياً، يهمنا طبعاً أن نفكك عقل هذا الإسرائيلي وهويته الملتبسة، لا سيّما أننا نكنّ نوعاً من إعجاب ولو خافت بالمنشقين عن الكيان الملفّق من أمثال المؤرخ إيلان باببه أو الروائي جيلاد أتزومان اللذين كشفا عن مآزق بنيوية في عمق سايكولوجيا الشخصية الإسرائيلية المعاصرة.
كلّ هذه الآمال المعلقة على «مترادفات» باءت بالفشل.
منذ اللحظة الأولى، تأخذنا شخصية المجند الإسرائيلي السابق يؤاف (يلعب الدور الممثل الإسرائيلي توم ميرسيه) في مواقف مفتعلة متخمة برموز توراتية حول الهجرة والتيه والتطهر والبدايات الجديدة في «جيروسالم – يوتوبيا» معاصرة تلعب دورها باريس. لا نعرف ما الذي يدفع يؤاف لترك عالمه الحالي وكيل الشتائم (المترادفة) له، بينما هو لاحقاً في حوار مع والده الذي كان يحاول ثنيه عن الهجرة، يخبرنا أنّ الفترة التي أمضاها في الخدمة العسكريّة كانت أجمل أيام حياته! وفجأة كما السحر، يظهر الرجل في شقّة باريسيّة باذخة لكن فارغة في ريو سولفرينو يحمل حقيبة ظهر وخيمة نوم متنقلة وقليلاً من الطعام. لكن ما تلبث وتسرق منه ــ لسبب غير مفهوم - بينما هو يمارس العادة السريّة ويستحم تحضيراً لولادته الجديدة، فرنسياً بالاختيار. عارياً من دون ملابسه ـ ومشاهد العري الكامل تكررت خلال الشريط بدون داع درامي أحياناً - يحاول يؤاف الاستعانة بجيرانه في المبنى الفخم، لكن لا أحد يستجيب لهذا الأجنبي ذي اللكنة الثقيلة الذي يطرق الأبواب عارياً. يعود بعدها ويتمدد يائساً مرتجفاً في حوض الاستحمام. لا نعلم لاحقاً ما إذا كان الثنائي الفرنسي المتبرجس إميل (كيونتين دولاميير) وكارولاين (لوي شيفوليت) اللذين عثرا عليه صباح اليوم التالي، هما شخصيتان وهميتان في أحلام رجل يفارق الحياة أم أنهما بالفعل حقيقيّتان. لحظة اللقاء العجيبة هذه تخلق مثلث حبّ سريّ ملتبس يستند إليه السرد مطولاً، وإن كان لا ينجح إطلاقاً في استكشاف إمكاناته الرمزية والسيكولوجية العميقة، ليكون أشبه بفرصة ضائعة.
يسجّل «مترادفات» بعدها رحلة تيه رجل يهرب من تاريخه ولغته وذاته حاملاً براءة زائفة (كيف يمكن أن تحتفظ ببراءة بعد الخدمة في الجيش الإسرائيلي؟) وبيده قاموس مترادفات فرنسي يستعين به للتعبير عن نفسه حتى عندما يلتقي بإسرائيليين. حبكة الفيلم وسرد أحداثه وحركة كاميراته المزعجة في تموجاتها أحياناً، تشبه السير في قلب مأساة سيكولوجية سورياليّة قائمة على تسطيح ثنائيات المواقف بين الأبيض والأسود على خلفيّة مشاهد من العاصمة الفرنسيّة مع تطويل لا لزوم له أحياناً، أو خطوط سرد واهية أحياناً أخرى.
فرصة ضائعة أخرى حيث المدينة كانت موضوع البحث. باريس هذه المدينة العظيمة اكتفت في «مترادفات» بأن تكون مجرد خلفيّة تمنح الفيلم لوحات بصريّة، من دون محاولة التنقيب في ما وراء التناقض بين العمارة الساحرة في بعض الأحياء وأكياس القمامة المتراكمة في أحياء أخرى. هكذا تجد شيئاً فشيئاً أنك لم تفهم مشكلة الهويّة المهجورة ولا مشكلة الهويّة المكتسبة وتكتفي بملاحقة استعراضات يؤاف الجسديّة والهزليّة المثيرة للاهتمام أحياناً، لكنها ساذجة في أحيان أخرى ولا تساعد على إكساب الفيلم شخصيّة أو طرازاً محدداً.
نقابل في الشريط شخصيّة إسرائيلي آخر، يارون، الذي يفترض أنه يمثل نقيض يؤاف لجهة أنّه اليهودي الفخور بإسرائيليته المتحدي للعابرين في المدينة والساعي للمواجهة معهم بسبب أو بدونه. لكن هذا التناقض أيضاً لم يستكشف، ولم يضف كثيراً على السياق الدرامي ليكون كذلك فرصة ضائعة أخرى.
تجوال على سطوح الهوية والهجرة والأقدار والعلاقات الملتبسة


ورغم التسوية المؤقتة التي تطرحها النهاية السعيدة غير الموفقة بالمرة في خدمة قضيّة الفيلم، إلا أنّ ما تبقى منه يأخذنا إلى نتيجة مفادها أن الإسرائيلي لا يمكن أن يهرب من ذاته. فهو يحمل «إسرائيله» داخله أنى ذهب، وأن ركوب سفينة البحث عن المعنى والسعادة يأخذنا بعد الوقت والجهد والآلام إلى ذواتنا من جديد من دون أمل بالخلاص، لا سيّما أن فرنسا العظيمة في الكتب والروايات تظهر عن قرب مطرّزة بعنصريتها المفرطة (مشهد يؤاف مصدوماً بمعاني الكلمات وهو يردد المارسيّيز خلال درس استيعاب المهاجرين)، عنصريّة لا تختلف كثيراً عن ما تركه في «بلده الأم» إلا ربما في النكهة.
لا يمكن طبعاً تجاهل المشاهد الباريسيّة الساحرة، وبعض لقطات الكاميرا الجريئة كما مقاطع الموسيقى التصويريّة المتدفقة عبر الشريط، لكنها جميعها لا تكفي لإنقاذ الفيلم من نفسه. «مترادفات» ناداف رابيد بحق مثل المترادفات تماماً، تحاول أن تقول شيئاً، فتبحث عن كلمات بديلة، لكنك تنتهي دوماً من دون أن تقول شيئاً. هو تجوال على سطوح الهويّة والهجرة والبدايات والأقدار والعلاقات الملتبسة والتصورات المسبقة من دون النّفاذ إلى عمق أي منها. نوع من وعد كاذب. ولنعد إلى السياسة الآن، الشريط نسخة من نقد شكليّ مبستر، يضيف إلى الكيان العبري الملتبس ولا ينتقص منه شيئاً. فلتطمئن سيادة العميد ريجيف.