الأمسية الدورية لـ«الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية» يوم الجمعة، تتمتع ببرنامج مشوّق وبموسيقيين مرموقين من النجوم غير المكرّسين، لكن الصاعدين، يحلّون ضيوفاً عليها لأداء برنامج أوركسترالي منوَّع.قائد الأوركسترا هو الأرمني الشاب المولود في بيروت غارو أفيسيان (الصورة)، الذي يقود الأوركسترا في عملَين لموزار وهايدن، وينضم إليه في عملٍ ثالث لبيتهوفن، ثلاثة عازفين منفردين هم: المصرية صبا علي (بيانو) والأميركية من أصول آسيوية سالي كو (كمان) والأميركي آيفري وايت (تشيلّو). إذاً، الأمسية يمكن وصفها بالكلاسيكية بالمعنى الثلاثي للكلمة. فهي أولاً، تندرج تحت خانة الموسيقى الكلاسيكية الغربية عموماً، وثانياً، تشتمل على برنامج كلاسيكي بمعنى أن الأعمال التي تتخللها معروفة ورائجة، وتنحصر، ثالثاً، ضمن الحقبة الكلاسيكية، لناحية هايدن وموزار، مع ميل نحو الحقبة الرومنطيقية، لناحية بيتهوفن الذي يعدّ الجسر الذي يصل بين الحقبتَين التاريخيّتَين المذكورتَين. كذلك، الجمع بين أسماء المؤلفين الثلاثة ذو دلالة أخرى تكمن في العلاقة التي تربط في ما بينهم. فموزار وبيتهوفن تتلمذا على يد هايدن، أبي الحقبة الكلاسيكية وأحد أبرز رموزها، وكانا يكنّان له احتراماً كبيراً، وخصوصاً موزار الذي أهدى أستاذه لاحقاً ست رباعيات وتريات، اشتهرت لاحقاً تحت اسم «رباعيات هايدن». أما البرنامج نفسه، فيتألف من ثلاثة أعمال غاية في الجمال وسهولة المقاربة السمعية، ما يجعله في متناول الجمهور العريض، حتى لو لم يكن معتاداً على هذه الموسيقى. من عند هايدن، تؤدي الأوركسترا السمفونية الرقم 104 وهي أولاً، آخر سمفونية من سلسلة «السمفونيات اللندنية» التي وضعها المؤلف النمسوي أثناء إقامته في لندن (وعددها 12)، وثانياً، هي آخر مساهمة ختم بها الرجل ترسانته السمفونية التي تعد الأكبر تاريخياً (إذا استثنينا بعض التجارب التي تخطته عددياً، لكنها لم تعرف شهرة تذكر).
البرنامج يتألف من ثلاثة أعمال غاية في الجمال وسهولة المقاربة السمعية، ما يجعله في متناول الجمهور العريض

إنها سمفونية كلاسيكية، لكنها تحمل ملامح الحقبة المقبلة التي أغناها بيتهوفن بتسع تحف. ألّف هايدن هذا العمل عام 1795، قبل أن يترك هذا النوع من التأليف حتى رحيله عام 1809، تماماً مثل موزار، الذي لم يؤلف أي سمفونية في السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت رحيله عام 1791، إذ كان مشغولاً بفئات أخرى، أبرزها الأوبرا التي ختم إنجازاته فيها بعملَين، أحدهما «الناي السحري» (من نوع الـ«زينغشبيل»، أي العمل الأوبرالي الذي تتخلله حوارات محكية، بخلاف الأوبرا حيث الحوارات شبه مغنّاة) الذي وضعه في السنة التي رحل فيها، وهنا نصل إلى المحطة الثانية من البرنامج، إذ يقود أفيسيان الافتتاحية الأوركسترالية الرهيبة لتحفة موزار المنهك والمضطرب والعليل والمتجه نحو حتفه المبكر.
أما العمل الثالث والأخير في الأمسية، فهو الكونشرتو الثلاثي لبيتهوفن، وفيه تتواجه الأوركسترا وقائدها بثلاثة عازفين منفردين (بيانو، كمان وتشيلّو)، يتناوبون على المبارزة في ما بينهم ومع الأوركسترا. إنه عمل غاية في السلاسة (وسهل التنفيذ لناحية المكتوب للبيانو خصوصاً)، وضعه بيتهوفن بعد خروجه سالماً من دوامة الاكتئاب واليأس التي كادت تودي بحياته انتحاراً، بعدما بلغ في آلية الإقدام على خياره الأسود إلى كتابة وصيته الأخيرة (بسبب فقدانه حاسّة السمع). نحن في عام 1803 أي المرحلة الثانية من مسيرة بيتهوفن. مرحلة اتسمت بغزارة تأليف التحف التي خلّدته لاحقاً، وبالثورة على القيود الموسيقية والاجتماعية، في الوقت الذي كان فيه نابوليون يعبّر عن طموحات بيتهوفن، قبل الخيبة السريعة التي سببها إعلان القائد الفرنسي نفسه إمبراطوراً في السنة التالية. الكونشرتو الثلاثي وهو الوحيد في ريبرتوار المؤلف الألماني الذي يجمع أكثر من آلة بالأوركسترا، وقدّ سجّله معظم الكبار في القرن العشرين، من ريختر وروستروبوفيتش وأويستراخ بقيادة كارايان إلى أندا وشنايدرهان وفورنييه بقيادة فريكشاي، إلى التسجيلات الأحدث التي لم تتخطّ إنجازات وحوش الأداء هؤلاء.

* 22 شباط ـــ س: 20:30 ـــ كنيسة مار يوسف للآباء اليسوعيين» (مونو ـــ الأشرفية) ـــ www.conservatory.gov.lb