أبعد من اللغة، أقرب إلى الضوء

  • 0
  • ض
  • ض

خمس سنوات على رحيل أنسي الحاج. الشعراء الكبار يجاورون الأبدية. لا عمر لغيابهم، فهم يعيشون ويموتون خارج رتابة الزمن. يخلقون زمنهم الخاص، ثم يتركون للعالم أن يأتي إليهم. يصنعون ذائقتنا، يؤطرون حياتنا، يتركون لنا أن نعيش قصيدتهم كأنّها قصتنا الحميمة. يؤسّسون لمستقبل دائم التجدد. إنّهم في قلب الوقت. والوقت، أساساً، يتشكّل من لحظة اشتعالهم. نحن نؤرّخ الأزمنة والحقب، بابتكاراتهم وإبداعاتهم وتجاوزاتهم. أنسي الحاج واحد من هؤلاء. لقد ارتشف جرعة المطلق من أوّل الطريق، الباقي لم يكن سوى تفاصيل يوميّة. أنسي نموذج الشاعر الذي يسكن الهامش، فإذا صار متناً، هجره إلى أقاليم عذراء جديدة. وهو بالنسبة إلى الثقافة العربيّة، الشاعر الذي شرّع باب النثر على القصيدة، وصفّى اللغة بصبر وعناية، كي تتسع للرؤيا. كتب على أنقاض العالم القديم، ورقص على جثّة السائد. «أول الواجبات التدمير (…) التخريب حيوي ومقدس»، كما أوصانا في المانيفستو التأسيسي الشهير الذي قدّم لمجموعته الأولى «لن» قبل 59 عاماً. هناك أشياء كثيرة ما كنّا لنقرأها اليوم، وما كنّا لنكتبها، لولا اقتحامه المشهد الشعري ذات عصر مبارك من تاريخ بيروت. يكفي أن نعاين كم أن قصيدته تخاطب اليوم الأجيال الجديدة، كأنّها كتبت لهم، لنتيقّن من أن هذا المارد الغريب، هذا الفوضويّ بامتياز، هذا الطيف الوحيد الواقف على حافة العالم، يستعصي على الأطر والقوالب والخنادق. لا يعود من المهمّ إذاً أن نحصي سنوات غيابه، فالغياب والحضور نسبيّان جداً، ما إن نطأ فردوس الشعر. كل ما في الأمر، أن هذا الملاك الماجن، الوثني الباحث عن جذوة النار المقدسة، التجأ في الصمت، ليواصل حضوره. شفيع الضوء، شفّ عن اللغة، فصار القصيدة. نستعيده اليوم في «الأخبار»، وهو لم يغب عنّا لحظة، شاعراً ومعلماً ورفيقاً وزميلاً، وقلماً فريداً، وضميراً شقيّاً… وخصماً حميماً أيضاً، بقدر ما الذكاء يستفزّ، وجدليّة الفكر تحرّض على التحدي والاختلاف. اسمح لنا، أنسي، بأن نحتفي بوجودك بيننا، زملاء وأصدقاء وأقرباء، وقراء يتجاوزون حدود الضاد. اسمح لنا أن نتسلل إلى غيابك، فهنا يكمن سرّك. هنا نتحد بالقصيدة.

0 تعليق

التعليقات