هذا البستان لا يشبه بقية الأشجار، جنّة مشتهاة. هناك طعم مختلف لثماره، نكهة ما لاذعة تصيب الفم وحركة اليدين، سفرجل لغة، وتفاح بلاغة، كأن مياهاً سحرية عبرت تربته وروتها عميقاً، ولا شك في أن سماداً سريّاً أدى إلى هذه الخلائط. ستصطدم سكّة الحراثة بكنوز نفيسة، وأبجدية غير مكتشفة، وبعبارة واحدة، فإن ما أورثنا إياه أنسي الحاج «إنجيل عاطفة» في المقام الأول. نشيد إنشاد للحواس، صدام ما بين الطهرانية والشهوة. الآن، في الحركة الخامسة لغيابه، لا نحتاج إلى بيان «لن» كي نتدبّر براهين جديدة على فرادة معجمه، أو منابعه الأولى، أو خصائص شعره، ذلك أن لكل شاعر أسلافه وخيميائه السريّة لصناعة وليمته الخاصة، لكن سنذهب إلى بيدر «الذهب والوردة»، نحصي ما جنيناه. كان صاحب «الرأس المقطوع» قد اشتغل باكراً عمّا يجري في جوار القصيدة بنثرٍ موازٍ للإيقاع الأصلي، على الأرجح كي يردم المسافة بين ما هو شعر، وما هو نثر بهجنة لغويّة تعمل على مزج المتناقضات، هكذا أتت «خواتم» بأجزائها الثلاثة كنوع من تقليب التربة في إنبات بذور جديدة تتأرجح بين الحكمة والاقتصاد اللغوي. شذرات خاطفة تبدو كما لو أنها بيت القصيد. لا حاجة إلى طعنات جانبية كي يسيل دم العبارة. فالكلمة هنا، مكتنزة، مشبعة بالمعنى، متفلّتة مما يعيقها لتصل بكامل ريشها، أو كما يقوله «بين طبقتين من الذات: ذات مُغمَضة وذات مفتَّحة تتفرَّس بها». هذه النقلة التي اعتمدها صاحب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» ليست نسفاً لمقترحاته الأولى بقدر ماهي فلترة للتجربة بأكملها، وصقلها برخام بلاغة أخرى، بتقنية المحو إلى تخوم البياض، أو التقاء مجريين لنبعٍ شاهق، متدفق، عذب، وصافٍ، إلى درجة أننا نرى الحجارة في عمق الماء، وتالياً، وضع النثر في مقامٍ أعلى «كلمات سكاكين، جمل شفرات، نقطع بها علاقة. وكلمات دروع نصدّ بها أمواج الآخرين، تحمينا من محبتهم» يقول. هذا بيان آخر في مراقبة ما طرأ على مغامرته من تحوّلات وهدم وانزياحات. لم تعد القصيدة ترجيعاً لمعجمٍ مستعار، فلسنا بحاجة إلى إعادة تدوير مفهوم سوزان برنار لقصيدة النثر، أو مداولات «جماعة شعر» في معنى القطيعة والضدّ والتمرّد، إذ عبر شاعرنا برزخ الأسئلة إلى أرضه الخاصة، متخفّفاً من «آثام الآخرين» نحو فضاء شخصي صرف، يشبهه، من دون شبهات، فيما سيتوافد شعراء لاحقون إلى بستانه لمعرفة السرّ في مذاق ثماره. مريدون كثر لكنهم سيفشلون في الدوران بفلكه، بمتاهته، ببساطة مفرداته، بخلائط إنجيل العاطفة، وكتاب التصوّف، وشبقية اللغة ما بينهما. هناك دمغة يصعب تقليدها أو مجاراتها أو فحص خطوطها وحبرها السرّي. جموح يهتك المتوقع نحو المفاجئ والمباغت والمدهش بضربة مدية واحدة، فالاقتصاد اللغوي يشفّ إلى طبقة الحرير، من دون أن يتخلى عن الجماليات الدنيوية بوصفها مطلقاً آخر موازياً للمقدس.
نسجَ ما هو شعري في صلب نول السرد مخلخلاً طمأنينة الحقلين في آنٍ واحد

هنا، في هذه البرهة الملغّزة، تكمن فرادة أنسي الحاج «أجمل الشعر لا ما تضاءلت صلته بالكلام العادي فحسب بل ما اخترع لغته مستعيداً بها زمام الفعل بالسحر» يقول. في كتابه الأخير «كان هذا سهواً»، سيواجه الموت وأسئلة العدم بالشبقية نفسها، والصفاء نفسه، والكثافة نفسها، مدركاً لوعة الغياب والفقدان والوحشة، وحشة الجسد المعطوب والروح القلقة، مثل «عصفور مخلّع تنتفض أجزاؤه من عجْز تلاقيها». مكاشفة الموت وجهاً لوجه، بهشاشة الكائن الذي يتحوّل مرغماً إلى ملحٍ ذائب وبخار، لا تفتك باللغة، بل تمنحها احتداماً وسطوعاً وألقاً، ذلك أن هذه الشذرات «استنطاق البدايات بحثاً عن نُور، وهي تجُوس الحواس في العتمة». لا أقنعة هنا، لكننا سنغوص في ألغاز الذات واضطرابها ووحشتها، و«الإقامة في الخوف». شاعر تأملي، وحكيم، دنيوي وروحاني، سوريالي وميتافيزيقي، ونبي بلا وصايا مُلزمة، لكننا سنتأبط «خواتمه» مثل تميمة لحماية أرواحنا من التلف. على مقلبٍ آخر، سننتبه إلى ريادة إضافية تتجاوز بواكيره، وذلك في نسج ما هو شعري في صلب نول السرد، وخلخلة طمأنينة أعشاب الحقلين في آنٍ واحد، نحو فضاء ثالث، سيكون علامة فارقة في تدويناته الأخيرة: «تحنين الرأس كي ترى الأرضُ وجهكِ فتعرف أنها ليست دائماً سطح الجحيم»، و«شمسكَ الليليّة تُخفي أرضي وتُظهر سمائي»، و«اليد أعمق من الفم». بافتراق شعراء «مجلة شعر» إلى جهاتٍ مختلفة، انبثق في المشهد الشعري السبعيني وما تلاه، شعراء يرتدون معاطف الآباء فوق أكتافٍ هزيلة: ماغوطيين وأدونيسيين، ودرويشيين من ضفة موازية، فيما لم يتمكنّ أحد من استعارة معجم أنسي الحاج، على الأرجح سيتعثّر بمشيته، وربما يقع في حفرة!