تغطي الأوراق الصفراء جنبات الطرقات. كل ورقة صديق، كل ورقة رفيق. كل أبجدية، لم تستعر ثمارها من زمن العزلات، لأن زمن من يقع عن شجرة الخريف زمن لم تهجع فيه الأحلام، حين مسحت العيون الأراضي القريبة والبعيدة، لكي تذخر فيها أجسادها وعقولها لا بما بقي، بما أُنتج. ذلك زمن التواصل والاتصال، بحيث إذا مال جذع امرأة على جذع رجل أحكم الغرام أنيابه كأفعى أحكمت أنيابها بصرامة بما ولَّت وجهها إليه. لا أفلام شخصية ولا صور كثيرة. الصورة للضرورة والفيلم جزء من ظلام الصالة. لم يولِ أحدٌ وجهه، لأن أحداً لم يرغب بكشف الأوراق على الطاولة. العالم واحد بلا عولمة. صراع العالمين الاشتراكي والرأسمالي، حوَّل العالم إلى عالم واحد. لا تعجل ولا نسخات مسروقة. لا ضرورة للتذكير بأن إشهار الفلسفات والاتجاهات والمناهج الكبرى أخذ أوامره من مناطق أبعد من الأدمغة على الخرائط. لا أشكال بلا أفكار. لا أفكار بلا صراع. إنها مرحلة العدم الآن، بعد التغريب والتبعيد ومسرح بوب ويلسون و«البريد أند بابيت» و«الليفينغ تياتر» مع جوليان بك وجوديت مالينا ومسرح البورديل كلونديستان ومسرح الكاراج والكباريه والجيب والطليعة ومسرح الوثيقة بالتوثيق مع بيتر فايس.استحال المشي على هدى طريقة واحدة، مع انبثاقات الثورة البلشفية وأصابع الرأسمالية الوحشية العشر تحفر للأولى طقوس دفنها. نحن مدينون للمرحلة هذه بتبادل الهواء بين الرئات، مدينون بالقفز فوق التعثرات. لأن رجال ونساء المرحلة، رجال أمميون ونساء أمميات. لم يعثر الفنانون على سكاكين حفر التجارب بجيوبهم. لأن السكاكين وخزت الأرض، أرضهم، من السماء. لم يستطع أحد وقف الزحف ولا وقف الجرافات الفكرية بعالم بلا لصوص. لأنه عالم يجر العالم إلى العالم، كما تجر الغيوم الغيوم. جر الحدث اللبنانيين من وراء ظهورهم، حين سمح لهم أن يرموا ما يشاؤون من النظرات وأن يعثروا على موسيقى تليق بهم كما تليق بقلوب سوف تذهب بعيداً من مملكة قلوب الثلج. ثمة حزن، غير أن لا خوف. هكذا سقط مرشدو السوء على الطرقات الواضحة. رأى اللبنانيون بيضهم بين الصخور، بدون مرشدين. لأن مرشدهم، انفتاحهم على نظام من الإشارات الصديقة، الطالعة من بيوت الأصدقاء بالعالم. أصدقاء بلا بروفايلات. ولأنهم هكذا: بدوا كما لو أنهم صديق واحد. المعسكر صديق افتراضي لا الشخص. دبّ الفنانون والمثقفون على الثقافة كما يدب النمل على الأغصان المثمرة. دبوا بالمسرح والتشكيل والسينما والقصة والرواية الجديدة. لم يخشَ أحد فرجينيا وولف ولا الأجساد الملفوفة بأقمشة المسرح، من ستانسلافسكي إلى مايرخولد وبوبوف وفاختانكوف ولا غروتوفسكي ولا مسرح الشمس ولا أريان منوشكين ولا التجريد والتكعيب ولا السيرلة ولا فقريات ظهور الفوضويين ولا غيرهم. عالم يتفتح فيه الواحد على الآخر برغبة وبلا رغبة. هنري حاماتي (1934 ـ 2019)، من طيور صباحات المرحلة هذه. عقدة في عقد ذهبي. لا أحد الواقفين على وليمة النهب. لأن الرجل باحة متنوعة من الكلمات الصعبة وغير الصعبة. وجد السوري القومي الاجتماعي في بستان أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حيث قُرعت كل الأجراس دفعة واحدة فوق أكوام الشوك بالمعسكر الآخر (معسكر الأعداء الأعزاء). لم تتمدد أذن الرفيق هنري لأنه وجد ريشته الذهبية بالأيديولوجيا لا بجناح غراب أو عصفور المسرح. فتح كل شيء على كل شيء، بحيث بدا صاحب باقة ورد غريبة وهو يصعد السلم بخطوات أنيقة تعود إلى «جوهرة المدرحية». آمن أن فكر أنطون سعادة سوف يحول الأشكال إلى معادن ثمينة. لم يتوقع أن تسقط النبتة هذه كزر مريض على سرير كره الأيديولوجيا على نوافذ المسرح.
راوح الرجل أمام فكرة البحث عن المسرح في لبدة فكر سعادة وأيديولوجيا الحزب السوري القومي الاجتماعي، حين ذابت الأيديولوجيات بالحاجات. لم يملأ الواقع الجديد أكواب هنري حاماتي القديمة بالمسرات الجديدة. لأنه لم ينزل معطف الفصول عن «البورت شابو». بقيت يده لا تتدفأ إلا بجيب الحزب السوري القومي الاجتماعي، ما لم يسمح له بأن يلحظ شمس الأيديولوجيا والمناقبية الحزبية وهي تهرب من فضاء البلاد.


حين غمر المسرح بالدماء، وجد حاماتي الدماء على أوراق مسرحياته ذات اللمسات لا ذات أصوات الماكينات الجديدة. أدرك الأمر بعدما رأى الجمهور حكمة الكاتب جنوناً لا برتقالاً أو تفاحاً أو كرزاً يسقط بالحضن. أدرك الرجل أنه منح المسرح طعاماً قليلاً، إذ منح طعامه كله إلى من يرغب بالكلام مثله. هكذا، وجد أزهاره بالكتابة في السياسة أكثر مما وجدها في الكتابة للمسرح. لم يقدم عينه الواسعة للمسرح. كلما تخاصر الكلام، كلامي وكلامه، على هذه الحقيقة، حوَّل صوته إلى منجل. لم أعرف أنه هاجر إلى باريس إلا ببيان النعي. لأنه اختفى كما اختفت نصوصه. نصوصه نادرة، إلا أنه وجد مهنته في كتابة النصوص للمسرح بعدما وقع، كما يقع شيء من السماء، في حضن «محترف بيروت للمسرح» مع روجيه عساف ونضال الأشقر ورضا كبريت وكلود إده وغيرهم ممن تواتر حضورهم في المسرح كنرد لا يرغب بالكلام وهو يضحك حتى وهو يرتطم بأطراف طاولة اللعب. كتب «مجدلون» (1969) ما انفك يصرح بالأمر. إلا أن كلام أباطرة «محترف بيروت للمسرح» حول احتشاد الكتاب بأنفاسهم الضيقة والواسعة بالنص الواحد، لم يلبث أن حوَّل الرجل الكيس إلى رجل سهم يعبر المسرح بسرعة كما يعبر السهم الفضاء. ثم أن هنري حاماتي، وسط انشغالاته بالسياسة، لم يدرك أن نصاً واحداً لا يصنع حياة في المسرح. وأن المسرح مهنة وشغف في الوقت ذاته. أطلق حاماتي ساقيه فوق الشغف بدون قدرة على أن يحول المسرح إلى مهنة كثيرة الأضواء. ثم راح يتكلم كناج أمام تصريحات أعضاء المحترف المؤكدة أن الارتجال أصل الكتابة. كتابة تحتشد بالجرحى. مذاك، وقف الرجل على أعصابه وهو يردّد بأن نص «مجدلون» نصه، مع ترديد الأعضاء في المحترف أن المحترف يكتب بالجملة وأن كتاب نصوص المحترف هم مولفون لا مؤلفون. لم يكتب طلال حيدر ولا عصام محفوظ ولا هنري حاماتي لـ «محترف بيروت للمسرح». ولفوا نجوم الارتجال الحارقة على ورق أحمق، لم يلبث أن احترق على الخشبات والمنصات البيروتية، عندما اهتدى الارتجال بالتمارين إلى الارتجال بالعروض. ارتجال على ارتجال. هكذا، استفاق هنري حاماتي على فقدان أحد أبرز النصوص في تجربة المسرح اللبناني. لا يعرف كيف حدث الأمر بالضبط، غير أنه عرف أن المحترف أعلن على الشهود أن نصوص المحترف من صنع المحترف. اندلق كوب الحليب الساخن على بدلة هنري حاماتي. غرق بحليب الكوب، حين سمع العالم مواء «مجدلون» اللذيذ الأشبه بمواء قطة عظيمة الجمال على خشبة «مسرح بيروت». تدحرجت المسرحية من «مسرح بيروت» إلى طاولات الـ «هورس شو» بعدما دهمتها أجهزة السلطة اللبنانية. لم يستطع حاماتي أن يكتب شيئاً آخر، ما عزز من كلام أعضاء المحترف وصدقيتهم على قطار الارتجال. مات حاماتي حين سال النص على طاولات الـ «هورس شو» كما يسيل المطر بحفر الليل والنهار. أضحى النص جنة المسرحيين وخربة الكاتب أو المولف. حين وجد النص بغرف منازل اللبنانيين بخفة طير، فقد حاماتي رؤوس آثار الكتابة في «محترف بيروت للمسرح». كتابة «مجدلون» حلم. كل خطوة فيها ترفع الأجساد المتأهبة للقفزات الحاسمة من الأرض إلى السماء. لا رائحة وجود قوية لهنري حاماتي في نص «مجدلون». ثمة علامات غامضة من يديه على النص، لا أكثر. كلما جادلته بالأمر، اعتبر الجدل من خبث العقل أو من رأس موجود تحت الإبط. لا من قيام المسرحي والنقد المسرحي على خدمة المسرح. عبر الكلام بشارعه كسهم ثمل، ليسقط الكلام إثرها بين المتحاورين تحت شرفة الصداقة لا على الشرفة نفسها.
«مجدلون» وعله، على ما ظن على الدوام. نصوصه الأخرى لا تقوم على خدمة المسرح إلا من وجهة نظر كاتب يتحسس رائحة الوجود بالكتابة. ويقف عند حدود التحسس هذا. لم يرد سوى نص «مجدلون» وهو يرسل نصوصه الأخرى إلى مكتبي في «تلفزيون لبنان». نصوص يموت غناؤها كما يموت عصفور يوم ولادته. نصوص لا تدع الأحلام تقفز فوق التلال. نصوص تترك الخيالات في مطرات الخيال. نصوص تكتب بالأزاميل لا بالأقلام، بعدما استسلمت لعادات الأيديولوجيا «الشامية» أو أيديولوجيا بلاد الشام المجبولة بسير الآلهة. «مردو البابلي» واحد من النصوص هذه. نص مؤرخ في 5 كانون الأول ١٩٧٤، سعره عشر ليرات لبنانية. نص مطبوع في «مطابع قدموس الجديدة» في فرن الشباك. نص يدور بين شولكي الملك وملكي الحارس العظيم في بابل قبيل «السبي الأول» كما جاء على الصفحة الأولى. شغل على الأسطورة، زاد من زاد السوريين القوميين الواسع. نص شبح لنص «مجدلون». النصوص الأشباح عند هنري حاماتي كثيرة. نص «هؤلاء الطلبة» نص شبح ( ١٩٧٠). «ذات أصيل» (قصة وسيناريو وحوار / ١٩٧١).... هذا لا يؤكد أن الرجل من عالم المسرح ولا يؤكد أنه بقي خارج عالم المسرح. هنري حاماتي من هذا العالم، بدون أن يدرك أن المسرح يطير حين ينتهي العرض المسرحي. طار المسرحي من هنري حاماتي، إذ لم يدرك أن المسرح ليس لساناً فقط. وأن نحل المسرح شرطه موت ملكة النحل، فالملك/ الزوج ضحية لا يسمح لها باقتسام الحديقة لا مع الملكة ولا مع النحل الطائر فوق الطرقات. طرقات تحط عليها أجمل العصافير بدون قدرة على امتلاكها.
وجد الرجل نفسه في ماء المسرح، لأن السياسة هي الأساس في حياته


«مجدلون» طيف نص ملقى على الطريق. لا تعود العظام إلى التراب، لأنها بالتراب أصلاً. مجدلون وردة ميتة بكف هنري حاماتي وشجرة ورد في مسيرة «محترف بيروت للمسرح». لأن حاماتي نافذة مطلة على السياسة أكثر من مجالات الحياة الأخرى. كتب في الشعر «إلى الفقر» (١٩٦٠) كما كتب في المسرح والسياسة. السياسة أكثر. «جماهير وكوارث» ( ١٩٦٨) و«كيف نتجه» ( ١٩٦٩). الدراسات بالسياسة، ضرب بخشخشة العالم الجديد. المسرح عند هنري حاماتي سمكة لمعت على سريره ذات مساء. فات الرجل أن يملح سمكته، هكذا عبرت كما يعبر ذئب غابة، لا تهمه الأنوار. لأن مدينته لا تستيقظ عليها. اشتاق هنري حاماتي إلى المسرح على الدوام، لأن المسرح نبيذ الجرار في الغابات المجاورة للسياسة. ما دام المسرح مسرحاً سياسياً، مسرح سياسة في الستينيات. وجد الرجل نفسه في ماء المسرح، لأن السياسة الأساس بحياته: نول المسرح الأول وخيطانه، يخرج منها الأنبياء. كثر الأنبياء في ذلك الوقت. ثم أن «الأنبياء المسلحين» علموا الأنبياء غير المسلحين أن القتل وحده يرشد السفن إلى الموانئ. هاجر الرجل أكثر من مرة لأنه لا يحسب على أتباع القتل. هذه هجرته الأخيرة.