يناقش جون برغر في فيلمه/ نصّه الأيقوني، مسألة «التمثيل»/ التصوير representation، تمثيل جسد النساء مقارنة مع تمثيل جسد الرجال في الصورة. فيقول بأن الرجال في الصور واللوحات والحملات الدعائية والإعلام، يظهرون «كمن يستطيع أن يفعل شيئاً». أمّا النساء، فيظهرن «كمن يفعل بهنّ»، هن من يتلقّين رغبات المشاهد، وغرائزه وأحلامه وفيتيشاته، وينصعن لها (1).إن كامل الحياة اليومية للنساء هي تقريباً هذه الجزئية من «التمثيل»: هي أن تظنّ النساء أنّهن هنا لينصعن لما يريده الجميع (إلّا هنّ)، وأن يظنّ الجميع أنّه يستطيع أن يقول لهنّ ماذا يفعلن. هذا النص، هو عن النساء كعجينة رخوة للنظام: يأمرهنّ بأن يكنّ كذلك، ولا يرضى. هو عن النظام الذي لا تعجبه النساء مهما فعلن، عن ثقب النظام الذي لن يرتوي.
من المهم هنا أن نبدأ من «نظرية التحديق» أو male gaze، والتي هي فعل تصوير النساء في الفنون وفي الحياة، من وجهة نظر ذكورية، تتمثّل عبرها النساء كأدوات جنسية مصنوعة/ موضوعة/ متحرّكة/ جالسة/ واقفة/ فاعلة/ غير فاعلة من أجل متعة الناظر-الذكر. لكن الأبعد من هذا الفعل بحد ذاته، هو تأثيره على النساء، أي ما ينطبع من نظرة الرجال على النساء، فتصبح نظرتهم هي نظرتهنّ لأنفسهنّ: انعكاس حاجة الرجال على رؤية النساء لأنفسهن. يعالج برغر في نصّه «الصورة»- الإنتاج البصري، الرسم، التصوير، إلخ- لكنه أيضاً يعالج «رؤية» المجتمع للنساء، تخيله لهنّ ولما يجب أن يكنّ، التشذيب المتوقع من النساء شكلاً ومضموناً وتصرفات.
آني كوركدجيان ـــ من دون عنوان (أكريليك على خشب ـــــ 75 × 70 سنتم ـــ 2012)

يعود برغر في نصّه المرجعي، إلى أن المرأة تصبح منذ صغرها، شخصين في شخص واحد. واحدة منهما تراقب الثانية. إحداها هي نظرة الرجل في داخلها: «يجري تصوير النساء بطريقة مختلفة تماماً عن الرجال- ليس لأن الأنوثة مختلفة عن الذكورة- بل لأن الناظر «مثالي» دائماً ما يُعتبَر ذكراً، وصورة المرأة مصمّمة لإطراء الذكر. (...) ينظر الرجال إلى النساء. تراقب النساء أنفسهنّ وهن يُنظر إليهن. هذا يحدّد ليس فقط معظم العلاقات بين النساء والرجال، لكن أيضاً العلاقة بين النساء وأنفسهن. مراقب المرأة في ذاتها رجل: المرأة المُراقَبة. لذا، تحوّل نفسها إلى شيء – وبالتحديد، إلى شيء للنظر: منظر» (2). في أصغر تفاصيل حياتنا كنساء، نجد الإثبات على حقيقة ما يقول هذا المقطع الصغير: نحن اثنتان، رجل يراقب وامرأة تشذّب جسمها وشكلها وذاتها كي يرضى المراقِب، فيرضى الذكر الذي تتعامل معه. و«الذكر» ذلك يتنوّع بين الأدوار كلّها، من أبيها إلى صديقها إلى الرجل الغريب الذي يمرّ بجانبها في الشارع لثوان قليلة. عليها أن تؤدّي الفقرة التمثيلية ليرضى الناظر عنها. ولن يرضى.
نمشي الهوينى في طقس خريفي، أنا وصديقتي الستينية، إحدى مناضلات هذا المشرق. لم نلتق قبلاً، لكننا بعد ربع ساعة من الكلام، اكتشفنا كم نتشابه، أو كم تتشابه الظروف التي نعيشها: كم يتشبه النظام نفسه في كل الأماكن. هي في أواخر الخمسينيات من عمرها، وأنا في أواسط الثلاثينيات، اكتشفنا ونحن ننظر من بعيد إلى تجارب مررنا بها، في هدوء صباح مشرقي، بأننا لن نكون يوماً «كافيات». بالإنكليزية كانت جملتنا «we will never be enough»: في العشرينيات، نحن «صغيرات جداً»، غير متمرّسات، ثم فجأة نصبح «كبيرات» في المطلق، أو كبيرات فقط على ممارسات معيّنة. كبيرات على لبس معيّن، ورقص معيّن وكلام معيّن... ودائماً، بردّات فعل مبالغة.
تخبرني رفيقتي عن حادثة حصلت لها وهي في هذا العمر. تقول بأنها كانت مرّة جالسة في بار مع صديقتها، فاقترب منهما شاب في العشرين (للتذكير، هي في أواخر الخمسينيات). شرع يتحدث معها بشكل اتّضح منه اهتمامه بها، ثم دعاها للعودة معه إلى المنزل. بعد لحظات، صدح في البار صوت موسيقى «ميتال»، وهو النوع المفضّل لدى صديقتي، فعبّرت عن إعجابها بها وبدأت تهزّ برأسها على الصراخ المتصاعد منها. فقال لها الشاب بصدمة واضحة: «أنت؟! تسمعين هذه الموسيقى؟!» «كبيرة على الموسيقى، أنا. لكنني لست كبيرة كفاية لينام معي»، قالت لي وأنا أنظر إليها محاولة أن أفهم مدى الإهانة والاستخفاف الكامنَين في تعليقه.
أنت كبيرة على أن تستمتعي بحياتك وترقصي وتفرحي وتحبّي هذه الموسيقى أو تلك، لكنك لست كبيرة كفاية ليستمتع هو بك. حدودك هو الذي يرسمها في أصغر التفاصيل، حتى حاجتك ومتعتك، كلّها لها وقت ومكان وعمر... وحجم. إن كنت ذات شهوة جنسية كبيرة، فأنت مُلامة ومجبرة على كبحها، وإن كنت ذات شهوة محدودة، فأنت مريضة ومجبرة على تغييرها. الجسم وتصّرفاته وحركاته، وحاجاته، هو يرسمها ويقرّرها، ويجعلك تقتنعين بحدودك الجديدة.
نحن إذاً لن نكون يوماً «جيّدات بشكل كافٍ». سنكون دوماً طويلات كثيراً، أو قصيرات كثيراً، صغيرات جداً أو كبيرات في السن، نحيفات كثيراً أو ممتلئات كثيراً، جميلات كثيراً أو بشعات كثيراً... لن نكون يوماً ما يرضي هذا النظام. سيجد دائماً ما لا يعجبه فينا. نحن بالنسبة لهذا النظام، عجينة، يجب أن تكون سهلة القولبة. صبّ علينا الماء والملح في صغرنا وعجن فينا لسنين كي نأخذ الشكل الذي يريد. إن أوّل مساحة لتطبيق رغبات/ لتحقيق أحلام النظرة الذكورية، هي أجساد النساء. نقول «تشذيبها»، لنعني ليس فقط تغيير الشكل والحركة، بل في الأساس محو إرادة مالكة الجسد، تغييبها تماماً عن القرار، وتحويلها كما ذكرنا سابقاً إلى مراقِبة تلعب الدور نائبةّ عن الرجال.
مفهوم الجسد الأنثوي، لطالما كان الأساس في فهم السيطرة الذكورية، وبناء الهوية الاجتماعية للنساء


تقول سيلفيا فيديريتشي في مقدّمة كتابها الرائع «كاليبان والساحرة: النساء، الجسد والتراكم البدائي» بأن «مفهوم الجسد الأنثوي، لطالما كان الأساس في فهم السيطرة الذكورية، وبناء الهوية الاجتماعية للنساء» (3) تفسّر فيديريتشي هذه الممارسات بأنها «الاستراتيجيات التي حاولت من خلالها أنظمة السيطرة والاستغلال المرتكزة إلى الذكور، أن تهذّب الجسد الأنثوي وتضبطه وتستولي عليه، مثبتة أن أجساد النساء كانت الهدف الأساس والمكان المفضّل لبسط تقنيات القوة وعلاقاتها» (4).
في معرض الحديث الدائر عمّا يجب أن يكون حجم أجسام النساء وطريقة حركتها، ننسى أن المخلوقة الموجودة داخل ذلك الجسم، كائن مخنوق، لم يحصل أن عاشت يوماً ما تريد، لم يصل أن عرفت معنى أن تختار من دون انصياع للنظرة القادمة من الخارج، أو كردّة فعل عليها. وفي الاثنين ضياع كامل لإرادتها هي.
النظرة الذكورية لجسد النساء، تصنع في ما تصنع، حدوداً لما يمكن أو لا يمكن أن تفعله النساء، حتى في أكثر الأوقات حميمية، وفي أكثر الأماكن وحدة. وإذ نصبح بحدّ ذاتنا جزءاً من الرقابة –الجزء الأكبر والأقوى والأقسى- على ذواتنا، تنتفي حاجة النظام لإثبات نفسه ضرورياً أو لإقناعنا بذلك: ها هنّ النساء «يقرّرن» هذا أو ذلك، ها هنّ يضحكن على النكتة التي يقلن بأنها ذكورية، ها هنّ يتقبّلن الكلام والممارسات والنظرات التي يسمّينها تحرّشاً. يضع النظام بذرته فينا، ونحن، نسقيها، فتنمو في المساحة التي كانت ستنمو فيها بذرتنا.

1- Berger, John; Blomberg, Sven; Fox, Chris; Dibb, Michael; Hollis, Richard. “Ways of Seeing”, London (1972).
2- Ibid. “Women are depicted in a quite different way from men – not because the feminine is different from the masculine – but because the ‹ideal› spectator is always assumed to be male and the image of the woman is designed to flatter him. (…) Men look at women. Women watch themselves being looked at. This determines not only most relations between men and women but also the relation of women to themselves. The surveyor of woman in herself is male: the surveyed female. Thus she turns herself into an object – and most particularly an object of vision: a sight.»
3- Federici, Sylvia.«Caliban and the Witch: Women, the Body and Primitive Accumulation, Autonomedia.» New York (2004).
4- Ibid.