لمسرحية «بالنسبة لبكرا، شو؟» شريط موسيقي يُعتبر من أجمل ما كتب الفنان زياد الرحباني في هذا المجال. هذا طبعاً بالإضافة إلى الأغنيات الثلاث («إسمع يا رضا»، «البوسطة» و«عايشة وحدا بلاك») التي وردت في المسرحية وانتشرت يومها بسرعة كبيرة بين الناس لجمال لحنها وكلامها ولحسن أداء الراحل جوزيف صقر الذي بدا صوته كأنّه خُلِق لهذه الأغنيات تحديداً، أو لهذا النوع من الأغنيات الأنيقة والعفوية، عموماً.
في الواقع، أغنيات مسرحية «بالنسبة لبكرا، شو؟» نالت نصيبها في الصحافة، والأهم، في السمع. ذلك بخلاف المقطوعات الموسيقية التي ــ أغلب الظن ــ لم يتم التطرّق إليها أبداً في المقالات الصحافية التي تناولت المسرحية آنذاك (وقد اطلعنا على عدد لا بأس به من المقالات التي نُشِرَت بعد العروض الأولى عام 1978) أو تلك التي غطّت العرض الخاص للعمل في السينما الأربعاء الفائت. أمّا السمع، فلا هو متاح خلال عرض المسرحية (أو في النسخة الصوتية المنشورة) إذ ترافق المقطوعات، كلّياً أو جزئياً، مشاهد وحوارات تلهي الأذُن عن الموسيقى، ولا في الإذاعات اللبنانية التي لا تبثّ موسيقى «صامتة»، وإن حصل ذلك، فهو نادر. هذه الأعمال، القيّمة جداً، يسمعها من لديه في مكتبته أسطوانة موسيقى وأغاني المسرحية التي صدرت قديماً على أسطوانة 33 دورة (وعلى كاسيت) وأعيد إصدارها على CD منتصف التسعينات، وهي أساساً غير متوافرة اليوم بسهولة في السوق.
في البداية، يجب القول إن «بالنسبة لبكرا، شو؟» ليست مسرحية غنائية (كما ورد في الإعلان الترويجي الأصلي) بالمعنى التقليدي للتصنيف. إنها مسرحية تتخللها أغنيات (عددها 3، وهذا قليل جداً نسبةً إلى المسرح الغنائي) تشكّل أصلاً جزءاً لا يتجزأ من السياق الدرامي (بالأخص «إسمع يا رضا» و«عايشة وحدا بَلاك»). هذا غير كافٍ ليجعل منها مسرحية غنائية خصوصاً أنها تخلو من عنصرٍ يميّز المسرح الغنائي وهو الحوارات الملحّنة أو شبه الملحّنة. أمّا وجود أغنيات في هذه المسرحية، فله سببان: أولاً، زياد الرحباني هو صانع أغنية شعبية من الطراز الأول، بالتالي قادر على تزيين عمله المسرحي الشعبي بدُرَر من هذا النوع، ثانياً، وجود جوزيف صقر يحتّم عدم الاكتفاء بدوره كممثّل مهما بلغت أهمية مساهمته. الرجل صاحب صوت عظيم، وعلى هذا الصوت أن يصدح خلال العمل والناس تريد أن تسمع منه ولو موّالاً (بيت عتابا مثلاً). غنّى إذاً جوزيف هذه الأغنيات، ثم غنّت فيروز «البوسطة» بتسجيل مختلف يبدأ بموّال «موعود بعيونِك» (مع وتريات ممدودة في الخلفية ومرافقة فانكية غير مألوفة: نحاسيات، ضربات درامز، باص، غيتار كهربائي،…) وصدرت الأغنية في ألبوم «وحدُن» (1979) ولها تسجيل حي في حفلة «فيروز في الأولمبيا».
تعتبر «المقدّمة الثانية» من أجمل مؤلفاته الأوركسترالية، إذ تبدو مزيجاً من الفانك والكلاسيك والبوب
بالمناسبة، الموّال المذكور موجود في الأصل بصوت جوزيف صقر، لكن التسجيل غير منشور… على أمل أن نسمعه يوماً. أما «عايشة وحدا بلاك»، فقد صدرت أيضاً في تسجيل حيّ ضمن أسطوانة «زياد في قلعة دمشق — 2008» (2009). والسنة الماضية، أدرج زياد في برنامجَي حفلتيه في «مهرجانات زوق مكايل» و«إهدنيات» أغنية «إسمع يا رضا» الطربية التي أدّاها ببراعة الفنان المصري حازم شاهين، وسمعنا فيها إضافات في التوزيع. من ناحية ثانية، وبعد تجربة الموسيقى التعبيرية والتصويرية في «نزل السرور» (وبالأخص موسيقى مشهد دخول الثوّار وموسيقى المشهد الأخير)، دفع زياد هذا الجانب من مكوّنات عمله المسرحي التالي، أي «بالنسبة لبكرا، شو؟»، إلى حدود أبعد. كتب لهذه المسرحية مقطوعات عدة، بعضها تعبيري وبعضها تصويري بحيث تصف الحبكة الدرامية بدقة ووضوح مذهلَين (مثل موسيقى «مشهد الجريمة»). في «المقدّمة الموسيقية الأولى» محاكاة لموسيقى بعض الأفلام الأجنبية (الفرنسية والأميركية) في تلك الفترة وقبلها، مع دخول للوتريات، قبل أن تنتقل المقطوعة إلى البوسا - نوفا مع طرح «التيمة» الموسيقية الأساسية التي تشكل هوية العمل بأكمله. هذه الموسيقى جعلت زياد رائد البوسا - نوفا في العالم العربي، ذاك النمط البرازيلي الذي لم يعمل عليه كثيرون بعد زياد، إذ يفضل معظم الموسيقيين أنماطاً «أسهل» متى أرادوا الاستعانة بالغرب (روك على أنواعه، فلامنكو، راب، بلوز، ريغي…). بعد ذلك، تأتي موسيقى «مشهد حساب القناني» وهي تنويع على الجملة الأساسية (مع نحاسيات إضافية خصوصاً) للمقدمة الأولى. كذلك بالنسبة إلى موسيقى «مشهد باقة الورد» التي تُقسَم إلى مطلع تعبيري يُنبِئ بأمر غير طبيعي، يليه تنويع على «التيمة» (مع وتريات إضافية خصوصاً)، ما يدلّ على استمرار الأحداث بعد «الصدمة» التي تحدثها باقة الزهور. في المسرحية «مقدّمة ثانية» (تَرِد مرّتين، مرّة ترافقها أصوات ضحكات مسجّلة ومرّة ثانية أثناء التحية في ختام المسرحية)، تعتبر من أجمل مؤلفات زياد الأوركسترالية، وهي غير قابلة للتصنيف، إذ تبدو مزيجاً موفقاً من الفانك والكلاسيك والبوب. من يقارن نسختها الأصلية بالنسخة التي وردت في أسطوانة «قلعة دمشق»، يدرك كم ظُلِم زياد الرحباني في هذا البلد. كل التوزيعات موجودة لكن لا (أو بالكاد) نسمعها، بسبب التسجيل والميكساج الرديئَين، هذا إن لم نتوقّف عند أداء بعض الموسيقيين الذين يضطر زياد إلى التعامل معهم في وطننا «الأعجوبة» الذي يفتقر إلى عازفين يرتقي مستواهم الفني والتقني إلى مستوى التأليف المحترم. في حفلات دمشق أخذت حقّها في الأداء (بوجود أوركسترا كاملة وموسيقيين محترمين) والتسجيل، وأضاف إليها زياد بعض التزيين بريشته الذهبية الخاصة بالتوزيع لآلاف النفخ. هذه المقدّمة وردت أيضاً بنسخة جيّدة (لكن من دون وتريات) في تسجيل حيّ مصوّر خلال حفلة في أبو ظبي (Da Capo — 2005). تلي «المقدّمة الثانية» تنويعات إضافية على «المقدّمة الأولى» في موسيقى «مطعم بيبرم»، وهي من أعقدها وأجملها، نظراً إلى قوّتها التعبيرية في خلق شعور «الدوخة» التي يسببها دوران المطعم المزعوم. بعدها، تأتي مقطوعة جميلة من فئة الـballad التي ترافق مشهد «زكريا ونجيب». حمّل زياد هذه الموسيقى الهادئة حزناً كبيراً قد لا نسمع مثيلاً له عنده سوى في أغنية «كبيرة المزحة هاي» لفيروز (ألبوم «إيه في أمل» أو حفلة «بيت الدين — 2000»). قبَيل الختام، تشهد المسرحية جريمة محاولة قتل، ولهذا المشهد موسيقى هي من أجمل ما كتب زياد (أو حتى من أجمل ما كُتِب) في مجال الموسيقى التي تصوِّر التسلسل الدرامي بحذافيره. إنها فعلاً تحفة في مجالها، ينهيها زياد، الذي دخل حديثاً إلى عالم الجاز، بتنويعات (أو أقل من ذلك، أي تلميحات فقط) على المقدمة الأولى، يتولاها البيانو على طريقة الأميركي الراحل بيل إيفانز. تستحق هذه القطعة تفصيلاً لا مجال لكتابته الآن لضيق المساحة، لكن سبق أن قدّمناه في حلقة قديمة من «المكتبة الموسيقية» على موقعنا، وتمكن مراجعتها (الحلقة رقم 36). أما لـ «المشهد الأخير» فقد كتب زياد، مرة أخرى وأخيرة، تنويعات على المقدمة الأولى، ويمكن إيجادها أيضاً بنسخة مختلفة في ألبوم «هدوء نسبي» الذي حوى مقطوعة بعنوان «بالنسبة لبكرا شو» والمقصود بها تحديداً هذه القطعة. لنلخّص المقالة: موسيقى وأغاني «بالنسبة لبكرا، شو؟» هي بقلم فتى لبناني عمره 21 سنة، وضع لهذه المسرحية خلاصة ما درسه واختبره وبحث فيه من الأنماط الموسيقية والغنائية الغربية والشرقية التالية: الطرب المصري، الشعبي اللبناني، الشعبي اللبناني الحديث، البوسا - نوفا، الموسيقى الكلاسيكية الغربية، الفانك، والجاز…