ليست الخرائط في معرض «إرث وطني» ورقاً على جدار، أو مجرّد وعاء لتلال وهضاب وأشجار وأودية. المشروع البحثي الفني الذي تحتضنه «دار النمر للثقافة والفن» (كليمنصو ــ بيروت) حتى 26 كانون الثاني (يناير)، هو دعوة لرصد النهب الجغرافي والإنساني في فلسطين منذ ما قبل النكبة حتى اليوم: قصّ وتخطيط ومحو أمكنة وتحوير أسماء اعتمدت عليها السياسات البريطانيّة، إيذاناً بالاحتلال الإسرائيلي. يجمع المعرض الفنان الفلسطيني مروان رشماوي، مع Visualizing Palestine (راجع الكادر)، تحت تنسيق أحد أعضائها ومؤسسيها المهندس المعماري أحمد باركلي. استمدّ القيّمون على المعرض عنوان «إرث وطني» من جملة لرئيس لجنة مسح فلسطين خلال الثلاثينيّات البريطاني جون فردريك سالمون الذي قال: «يجب التعامل مع المساحة الطوبوغرافية المتقنة كإرث وطني من الطراز الأول»، من دون أن يحدّد لمن تعود ملكيّة هذا الإرث. في المعرض تجارب وطروحات فنيّة بحثيّة، تقترح مجتمعة، قراءة مختلفة للجغرافيا الفلسطينية ما بين تمثيلاتها في الخرائط والواقع والخيال، وما بين النظرة الاستعمارية إليها، والتحوّلات الجذريّة الآنيّة التي ألمّت بها. الأهمّ أن المعرض يأتي في سياق تطوير أدوات جديدة لفهم فلسطين، وتوسيع مراجع ومصادر معلوماتها. ضمن هذا الهمّ، أفضى بحث باركلي إلى خرائط نفّذها الاستعمار البريطاني في فلسطين منذ العشرينيات وصولاً إلى عام 1947.


من هنا، جاءت فكرة العمل مع رشماوي الذي لطالما استثمر الخرائط في تجهيزاته الفنيّة كمجال رحب يتردّد فيه على التاريخ والذاكرة والسياسة والتخطيط المديني والثقافة والديموغرافيا، كما في «بيروت كاوتشوك» (2004 ــ 2006)، و«بلازون» (2016)، و«مناظر طبيعيّة» (2012) الذي استعان فيه بخرائط رسمها لاجئون فلسطينيون لمخيّمات الشتات مثل شاتيلا ونهر البارد... لكن كم يملك الفنان مساحة للعمل على خرائط سياسية استعماريّة؟ في إحدى صالتي العرض، حيث يقدم رشماوي عمله، نرى خطوطاً بيضاء طوليّة وعرضيّة تصنع مربعات متساوية على الأرض. إنها الخطوط الصارمة التي ارتكز إليها البريطانيون وفق تقنيّة الـ grid العلميّة التي لا تولي اهتماماً إلا للحسابات الرياضيّة على حساب الإنسان والعلاقات البشرية بين سكان منطقة ما. يخبرنا رشماوي أن هذه الأداة وليدة الثقافة الغربية في عصر النهضة الذي هيّأ للحداثة، حيث «استخدم البريطانيون الحداثة لتقسيم فلسطين». سنرى فوق الخطوط الطولية والعرضية الملصقة على أرضيّة الغاليري، قطعاً ومربّعات صنعها رشماوي من الخشب كتجسيد ثلاثي الأبعاد لأكبر 22 مدينة في فلسطين، منها بير السبع وحيفا والناصرة وطبريا والقدس غزّة وبيت لحم... بين المكعّبات الخشبيّة، توزّعت على الأرض حوالى 1500 نقطة تشير إلى مواقع أظهرها المسح البريطاني. النسبة الأكبر منها، أي النقط البيضاء هي تلك التي لا تزال مسكونة أكان من فلسطينيين أو إسرائيليين، أما النقط السوداء فتمثّل المناطق التي هجّر أهلها ومحيت عن الخريطة. إلى جانب خرائط البريطانيين، استعان رشماوي ببيانات طوبوغرافيّة من وكالة «ناسا». من خلالها منح خريطته بعداً ثالثاً، مضيفاً إليها تحوّلات سنوات الاحتلال والتهجير. يصنع تضاريس هذه المناطق وتلالها وطرقاتها وسككها الحديدية، بتفصيل وبدقّة مدهشين. وإن كان رشماوي يسهب في تضاريس المدن على مكعّباته الخشبيّة، فإنه يترك مساحات شاغرة للمتفرّج. داخل صالة العرض حيث تتوزّع النقاط البيضاء والسوداء، ستبدو هذه المدن الخشبيّة جزراً متباعدة على الأرض الفلسطينية.
يجمع المعرض مروان رشماوي وVisualizing Palestine التي تسدّ النقص المعرفي عن فلسطين بأدوات مبتكرة

مساحات فارغة، لكنها مأهولة بالروايات التاريخية والسياسيّة والبيئية والبشريّة، التي لم يولها الاحتلال اهتماماً بالطبع. أمام الاستلاب المكاني الحقيقي، والعجز عن الوصول إلى الأرض الفلسطينية، بسبب الحدود والاحتلال، يدعونا رشماوي إلى المشي في فلسطين. بين مدنها الكبرى. فوق قراها المتلاشيّة. يمنحنا فرصة المشي في الغياب، ضمن لعبته الماهرة على حضور الأرض بين الحقيقي والمتخيّل. في غرفة ثانية، يعرض جزءاً كبيراً من الخرائط البريطانيّة الأصليّة التي استند إليها في تجهيزه. لا يمكن، النظر إليها بعينين باردتين، ولا تجاهل الثقل الذي ترزح تحته هذه الخرائط، باحتوائها على فترة مفصليّة قاتمة أذنت ببدء تقسيم فلسطين. تظهّر الخرائط البريطانيّة تفاصيل كثيرة من التضاريس: حدود ملكيّة الأراضي، والحدود التي تنوي إقامتها، والأماكن المأهولة، والمساحات الفارغة والطبيعيّة... يمكن للخريطة المعلّقة على الجدار بقياس ١:٢٠٫٠٠٠، أن تقرأ بطرق عدّة. كتبت الأسماء العربيّة عليها بالأحرف اللاتينيّة، من دون ترجمتها. لاحقاً، سيتمّ تحويل أسماء القرى والبلدات إلى اللغة الإنكليزية ثم العبريّة ومنها إلى العربيّة كما يخبرنا باركلي. يشير الأخير إلى اهتمام البريطانيين بتفاصيل ورسومات وألوان الخريطة، التي عمد منفذوها إلى إضفاء عناصر جماليّة عليها، نزولاً عند مخطط سالمون. يمكن العثور على هذه الخرائط على موقع «مكتبة إسرائيل الوطنيّة»، وفق باركلي، لكنها موجودة أيضاً في بلدان عدّة منها بريطانية بمئات الأجزاء. هكذا تمّ تجميع أجزائها المقسّمة إلى مربّعات وتعليق مساحة كبيرة منها في المعرض الذي يضعها في سياقها التاريخي. في أحد أجزاء المعرض، عُلّقت ألواح إلكترونيّة مفتوحة على منصّة «خرائط فلسطين المفتوحة» (palopenmaps.org)، وهي منصة إلكترونية (تابعة لـ visualizing Palestine) لاستكشاف خرائط فلسطين منذ القرن التاسع عشر، والخرائط التي سبقت النكبة وأخرى في الخمسينيات إلى جانب صور من الأقمار الاصطناعيّة لفلسطين اليوم، والتي تتيح المقارنة بين كافّة الأراضي الفلسطينية والتغيرات الدمويّة التي شهدتها خصوصاً حين نتنبّه إلى طريق مستحدثة فوق منزل كان قد ظهر في خريطة سابقة. تشكّل هذه المنصّة إحدى أدوات Visualizing Palestine لتعريفنا إلى الكثير مما نجهله عن فلسطين. إحدى هذه الأدوات أيضاً، حطّة فلسطينية استبدلت خيطانها ونقوشها بمستطيلات وخطوط هندسيّة تشكّل حوالى 530 بلدة وقرية فلسطينيّة هجّر سكّانها خلال النكبة، ولا تزال معظمها خالية. هذه القطعة التي يمكن لبسها تحوي على معلومات بيانيّة عن فلسطين ومجازر الاحتلال الإسرائيلي ضمن سعي المجموعة إلى ابتكار أدوات جديدة تفاعليّة تبقي فلسطين ونقاشها حاضرين.

* معرض «إرث وطني»: حتى 26 كانون الثاني (يناير) ــ «دار النمر للثقافة والفن» (كليمونصو ــ بيروت). للاستعلام: 01/367013



Visualizing Palestine
إذا أردنا اختصار عمل «تصوير فلسطين» Visualizing Palestine منذ تأسيسها عام 2012، فإن المجموعة تعمل على جعل فلسطين قابلة للإبصار. بلغة متطوّرة تجاري العصر الحالي، وتتصدّى للبروباغندا الإسرائيلية المتواصلة في استلاب فلسطين وإرثها وهويّتها، تحوّل المجموعة المعلومات إلى موادّ بصريّة ثنائيّة الأبعاد تسهّل المهمّة على القارئ، مثل القصص المصوّرة والصور والرسومات التي تستند إلى معلومات وإحصاءات بيانية. نعثر في الموقع الإلكتروني (visualizingpalestine.org)، على مواد كثيرة تختصر القرارات الإسرائيليّة المجحفة تجاه الفلسطينيين، والتعديات الإنسانية والبيئية للاحتلال بحق الشعب الفلسطيني وأرضه. تتابع المجموعة قضايا آنيّة، فيما تسعى إلى سدّ الفراغ المعرفي المتعلّق بفلسطين وإرثها، خصوصاً بالنسبة إلى العرب. علماً أن الفريق يضمّ باحثين، وأكاديميين وفنانين، وقاصّين يعملون في آسيا، وشمال أفريقيا، وأوروبا، وأميركا.