لندن | أحرق الكتاب في تشيلي عام 1973 أمام كاميرات التلفزيون، وتخلّص سلاح البحرّية من نسخه المتبقّية بإلقائها في البحر، وصودرت طبعته الإنكليزيّة من قِبل السلطات في الولايات المتحدة. بعد حوالى نصف قرن على صدوره، أعادت دار نشر أميركيّة يساريّة (O/R) أخيراً نشر كتاب أرييل دورفمان وأرمان ماتلار الشهير «كيف تقرأ دونالد داك: الأيديولوجيا الإمبرياليّة في كوميكس ديزني» باللغة الإنكليزيّة في نيويورك مع مقدّمة جديدة كتبها دورفمان. الكتاب الذي وصفه جون بيرغر يوماً بـ «دليل لتفكيك الكولونياليّة» يعتبر قراءة أساسيّة لكل من يحاول أن يفهم كيف تؤبد الأنظمة الحاكمة أوضاعاً قائمة لمصلحة القلة. وقد صار هذا العمل رمزاً لتجربة الرئيس سيلفادور الليندي الاشتراكية في تشيلي بين 1970 و1973. ففي موازاة الحرب الاقتصادية لتأميم مصالح البلاد الاستراتيجيّة من أيدي الشركات الأميركيّة، شنّ أيضاً حرب تحرر ثقافيّة شاملة ــ ألهمتها أفكار غرامشي ــ لمواجهة الهيمنة الثقافية للإمبراطوريّة على شعوب أميركا اللاتينيّة.أرييل دورفمان وأرمان ماتلار مثقفان يساريان: الأول أميركي من أصل تشيلي والثاني بلجيكي. وقد كان كلاهما من كوادر التجربة التي قادها الرئيس الشهيد سيلفادور الليندي بداية السبعينيّات لتحرير بلاده تشيلي من هيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة وتأسيس تجربة وطنيّة اشتراكيّة عن طريق الانتخابات والوسائل السلميّة. كانت الجبهة الشعبيّة الحاكمة وقتها قد وجدت أن تأميم شركات النحاس والمعادن التي كانت تسيطر على أهم موارد البلاد ويمتلكها الرأسمال الأميركي أمراً هيّناً مقارنةً بالتغييرات المطلوبة في العقول ومنظومة القيم الأساسيّة التي توجه سلوك المجتمع وتدفعه باتجاهات رجعيّة معادية للعدالة الاجتماعية والتحرر. ولذا، توافق مثقّفو الجبهة المتأثرون بأفكار الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي، على أن إسقاط النظام البرجوازي القديم في تشيلي والمتحالف بنيوياً وموضوعيّاً مع الإمبريالية الأميركيّة ليس كافياً من دون تفكيك الأدوات الفكرية والثقافية التي مكّنت ذلك النظام من تأبيد سيطرته على السلطة، ومن ثم إطلاق مواجهة ثقافيّة شاملة لبناء تشيلي جديدة حرّة واشتراكيّة ونبيلة.

منتجات «ديزني» تزرع قيماً رأسماليّة ونزوعاً إلى الرّجعيّة ومعاداة عميقة للتحرر

دورفمان وماتلار أكاديميان في علم الاجتماع، هالَهما أن الإمبراطوريّة الأميركيّة التي فرضت حصاراً اقتصادياً خانقاً على تشيلي كانت مع ذلك تسمح بتصدير نوعين فقط من البضائع الأميركيّة إلى سانتياغو: الأسلحة للجيش والمجلات. كان ذلك في زمن ما قبل انتشار التلفزيون كأداة الترفيه الأهم ومجلات الأطفال التي تُصدرها «ديزني» حينها بمثابة ولع اليافعين التشيليين الأوّل. إذ كانت تصل إلى أيدي مليون من القرّاء أسبوعياً. ولذا، شرع دورفمان وماتلار في إجراء دراسة معمقة للمحتوى الأيديولوجي لمئة مجلّد من مغامرات «دونالد داك» («العم بطوط» كما في الترجمة العربيّة) التي كانت متداولة في أيدي أطفال تشيلي، فكان كتابهما المفصليّ «كيف تقرأ دونالد داك؟» الذي صدر عام 1971 في تشيلي. لم يدرك كثيرون في تشيلي (وأغلب دول العالم الثالث) أن البراءة والإيجابيّة وروح المرح التي تحملها منتجات «ديزني» لأطفالهم كانت تزرع بخبث قيماً رأسماليّة بغيضة ونزوعاً إلى الرّجعيّة ومعاداة عميقة للتحرر بوصفه ضد نظام الأشياء، وأيضاً نظرة عنصريّة دونيّة تجاه مَن ليسوا من جنس البطّ (الأبيض). ولذا فإن كتاب دورفمان وماتلار في صياغته ومصيره العمليّ لم يبق حبيس أبراج عاجيّة، بل تحوّل أداة تنوير ثورية مهمة في مواجهة الهيمنة الثقافيّة الأميركيّة على أميركا اللاتينيّة. تُظهر الوثائق من تلك الفترة تفاصيل هجمة شرسة شنتها صحيفة تشيلية يمينية (تبيّن في ما بعد أنها كانت مموّلة بالكامل من قبل المخابرات المركزيّة الأميركيّة) على الكتاب «كونه محاولة ماركسيّة رديئة لغسل أدمغة الجيل التشيلي الطالع»، وتسابقت وسائل الإعلام اليمينيّة على انتقاده وذم مؤلفيه، حتى تعرّض أحدهما لمحاولة اغتيال، إذ رجم مراهقون بورجوازيون بيته بالحجارة هاتفين بحياة «دونالد داك».
تغيّر مصير الكتاب ومؤلّفَيه وتشيلي كلّها صبيحة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 1973 عندما نفّذ الجيش التشيلي انقلاباً دموياً خططت له المخابرات المركزيّة الأميركيّة قتل فيه الرئيس الليندي وعشرات الآلاف من أنصاره. لكن سلطة الانقلاب لم تكتفِ بقتل اليساريين بلا رحمة، بل نظّمت أمام كاميرات الأخبار محارق لكل الكتب والمجلات والأسطوانات الموسيقيّة والأفلام والمواد الثقافيّة التي أنتجتها التجربة الاشتراكية. وقد أُحرقت وقتها كل النسخ التي وجدها الانقلابيّون من «كيف تقرأ دونالد داك؟»، وأصبح الاحتفاظ بنسخة منه سبباً كافياً لنيل حكم الإعدام. تسجّل وثائق نشرت بعد سقوط حكم بينوشيه بأن السلطات الانقلابية عثرت لاحقاً على 10000 نسخة منه مخزنة في مستودع مهجور بالقرب من أحد الموانئ، فتم تسليمها للبحريّة التشيليّة لإلقائها في عرض البحر. فرّ المؤلّفان بحياتهما من تشيلي بعد فترة من التّخفّي ووفق نصيحة الثوار اليساريين لرفد المواجهة مع الانقلابيين من الخارج. وقتها التقيا ناشراً ومترجماً نقلا الكتاب إلى الإنكليزيّة في لندن، لكن الـ 4000 نسخة التي حاولا شحنها إلى سوق الولايات المتحدة علقت في مستودعات سلطات الرقابة هناك، بعدما قبلت الأخيرة طلباً عاجلاً من جيش محامي السيد والت ديزني لمنع توزيع الكتاب، بحجة أن محتوياته اعتداء على الملكية الفكريّة. ورغم أن القضاء أصدر حكماً لاحقاً بالسماح بتوزيع نسخ الكتاب، إلا أن ما بقي منها صالحاً للبيع فعلاً لم يزد عن 1500 نسخة، وتمكن والت ديزني من شراء معظمها وإتلافه.


والت ديزني الشخص وراء إمبراطورية «ديزني» الإعلاميّة - وكما معظم المشاهير في العالم الرأسمالي - يُقدّم وفق السرديّة الأميركيّة بأنه «العم والت» رمز عالم الطفولة البريئة والمرح الساحر والترفيه النّظيف. لكن الرّجل الحقيقي مختلف تماماً. هو عاش طفولة بائسة وفشل دائماً في تأسيس علاقات اجتماعيّة سليمة. لكن الأهم أنّه كان تاجراً رأسمالياً شديد الجشع يسرق عبقرية موظفيه الفقراء مقابل فتات. وطالما مثلت منتجات شركته أسلحة أيديولوجيّة ماضية في الترويج لقيم تريد الفئة المهيمنة تمريرها لصغار السنّ في وقت مبكر من حياتهم، سواء داخل الولايات المتحدة نفسها أو عبر العالم. حتى قيل إنّ والت ديزني يفوق بأهميته الإمبراطوريّة أسطول البحرية الأميركيّة الجبار.
«دونالد داك» (بطوط) هو أحد هذه المنتجات. يقيم «العم بطوط» في مدينة البط (هي كناية عن أميركا المثاليّة) برفقة ثلاثة أولاد عمّ يعيشون معه بينما يهيمن على العائلة «العم سكروج» (أو «دهب» وفق النسخة العربيّة). الأخير نموذج الرأسمالي الشّره، يواصل سيطرته الدائمة على بقية أفراد العائلة من خلال تهديدهم بحرمانهم من الإرث. أمر يعني بالضرورة أن مصدر القوّة الأعلى هو المال. في الوقت ذاته، يبدو «العم بطوط» فاشلاً في كل مساعيه لزيادة دخله من أجل شراء الكماليات الاستهلاكية دائماً بسبب كسله وسوء تقديره. وهكذا، فإن النجاح والفشل في مدينة البط أمر فردي محض لا صلة له بعلاقات الهيمنة الحقيقيّة في المجتمع. ولا وجود في المدينة لآباء أو أمهات أو إخوة أو أخوات، بل هي يوتوبيا بيضاء خارج الزّمن (ليس فيها أي وضوح لطبيعة النظام الاقتصادي – الاجتماعي سوى قطاع خدمات استهلاكيّة) يحكمها الأعمام (الذكور) اللّطفاء. الجنس اللطيف في القصة شخصيات فارغة تعتني بشكلها فقط، وتلعب أدواراً جندريّة هستيريّة تعود إلى العصر الفيكتوري. وعندما يسافر الأعمام عبر البحار، فهم يجمعون الأموال والنفائس بلا جهد يذكر. لكن الأخطر هو تلك الصور النمطيّة الاستشراقية الطابع عن السكان المحليين في البلاد الأخرى. فهم إما جهلة وسذّج يجلسون على تلال من الذهب والماس (والنفط) ولا يدركون قيمتها ليوقّع «العم دهب» مع «نخبتهم» اتفاقيات تبادل تجاري يأخذ فيها مواردهم ويعطيهم توافه الاستهلاكيات الأميركيّة، أو هم لصوص فاسدون وثوريون شيطانيون يحاولون كسر النظام الطبيعي للأشياء وفرض ديكتاتوريات عسكريّة ظالمة، فيواجههم الأعمام الشجعان الآتون من يوتوبيا «مملكة الخير» (الأميركيّة)، فيساعدون على إعادة الملك الشرعي إلى العرش أو تأسيس جمهوريّة برجوازيّة جديدة. الشرير في عالم البطّ هو الذي يحاول التعرّض للملكيات الخاصة، بينما سرقة موارد الشعوب وفق اتفاقيات تجاريّة غير عادلة فهي «فهلوة» وحسن تدبير.
الهيمنة الذكوريّة البيضاء ومركزيّة المال أساس كل حكاية جديدة


لكن الثيمة الأعمق وراء ذلك كله هو الثبات الاستاتيكي للحياة في مدينة البط رغم كل المغامرات المثيرة. فالشخصيات ثابتة في قوالب لا تتغير مطلقاً. حتى عندما تظهر في أدوار تاريخيّة أو تسافر عبر البحار، فإنها تحتفظ بذات الأبعاد، وتبقى الهيمنة الذكوريّة البيضاء ومركزيّة المال كمصدر للقوة والسعادة أساساً لكل حكاية جديدة. هذا هو النظام الطبيعي للأشياء: يتغير كل شيء، لكن الرأسماليّة خالدة وباقية وتتمدد.ليس دورفمان وماتلار أوّل من حاول نقد «العم بطوط» ونتف ريشه وإعادته «مشوياً» إلى بلاده على حد تعبيرهما في مقدمة الكتاب. إذ أن كثيرين اتهموه قبلهما مع قريبه «العم دهب» بأنّهما بمثابة باعة متجولين يطوفون الكوكب لتسويق «الحلم الأميركي» و«طريقة العيش الأميركيّة» للجماهير الغافلة. لكن في «كيف تقرأ دونالد داك؟»، كشف دروفمان وماتلار للتشيليين أيّام التجربة الاشتراكية المغدورة عمَّا يترتب على مواطني العالم الثالث دفعه من أجل أن تستمر طريقة العيش الأميركيّة ويتحقق الحلم الأميركي في «مدينة البط»: لا أقلّ من العبوديّة والتبعيّة والارتهان، وأنهم من أجل ذلك يطعمون صغارهم من غير وعي قيماً رجعيّة مناهضة للثورة من خلال استهلاك المنتجات الثقافيّة الأميركيّة. والأدهى من ذلك أنهم يدفعون نقوداً لشراء تلك السموم.
للحقيقة فإن شيئاً لم يتغيّر منذ بداية السبعينيّات، فالهيمنة الثقافيّة والفكريّة الأميركيّة على العالم هي نفسها، بل إنّها تفاقمت، والإمبراطوريّة ما زالت ذات الإمبراطوريّة، اللهم إلا أنها في لحظة تخلّ بين اليقظة والنوم كأنها اختارت «العم دهب» شخصيّاً رئيساً للولايات المتحدة، وهو يريد أن يعيدنا جميعاً إلى مدينة البط العظيمة من جديد.