هنا القاهرة. القاهرة مصر. مصر أم الدنيا. الدنيا ليست بخير وأمّها كذلك. إن كانت حفلة الفنان زياد الرحباني فيها، مساء الجمعة الماضي، جيدة جداً ومرّت بسلام وأمتعت الجمهور وكانت فعلاً استثنائية ببرنامجها وتنفيذه، فهذا لا يمنعنا من الإحاطة بما هو أبعد من الحدث الفني. حرصاً على مصر. حرصاً على حالنا جميعاً. ألا يقال إذا كانت مصر بخير، العالم العربي بخير؟ كثيرون يزايدون بعروبيّتهم ويتغنّون بمصر وبغيرها من الدول العربية ويشيحون النظر عن مشاكلنا، وفي الوقت عينه يبشّرون بزوال إسرائيل. لا، ليس بالصاروخ وحده تُزال إسرائيل ولا بالعنفوان الفارغ، بل بالنقد اللاذع لتصويب العمل في بعض المجالات البعيدة عن المقاومة المسلّحة، لكنها على المدى الطويل أنفع بكثير من السلاح. و«إسرائيل» هنا تعني الشر أو البؤس أو الاستعمار أو تردّي مستوى العيش أو غير ذلك من الآلام التي تصيب الشعوب. لكننا نستخدمها هنا من باب الرمزية التي يفهمها الجميع.قبل أسبوعين، حطّ الفنان زياد الرحباني في القاهرة برفقة مجموعة من الموسيقيين وأعضاء الكورس اللبنانيين. السوريون الذين كان يفترض أن يشاركوا في الحفلة التي أقيمت في قاعة «مركز المنارة» في التجمّع الخامس لم يحصلوا على تأشيرة دخول إلى بلد كان، بالأمس القريب، يشكل مع بلدهم وحدة حال عربية! لا بأس، مصر غنية بموسيقييها ومغنّيها، ويمكن ملء الفراغ الذي خلّفه التدبير غير الصحّي إطلاقاً تجاه فنانين سوريين كانوا سيمكثون بضعة أيام فقط في العاصمة المصرية. الفرقة الموسيقية تألّفت من أفراد من «سينكوب أوركسترا» (Syncope Orchestra) من بينهم قائدها جورج قُلْتَة، وآخرون من الأوركسترا الوطنية ومستقلّون. المغنون الأساسيون، جميعهم من مصر، وهم العظيم أداءً وجرأةً وحضوراً وإحساساً حازم شاهين، والمغنيتان شيرين عبده التي أبدعت في الحفلة بأداء أغنيات من عالمين متباعدَين (الشرقي الصرف والغربي الصرف) ودعاء السباعي التي أتحفتنا بحسن أدائها وبقدرتها على المسك بزمام الأغنيات وبمقاربتها الأمينة والمميزة في آن. بمعنى آخر، القيمة المضافة الأبرز على كلاسيكيات يعرفها الجمهور جيداً كانت الأداء الغنائي، بدعم ممتاز من كورس لبناني/ مصري. بكلمة مختصرة: قدّم زياد الرحباني في مصر أمسية ذات برنامج لا يُفَوَّت، تم تنفيذه بجودة عالية (باستثناء محطة متعثّرة واحدة هي أغنية «بصراحة»).
السوريون الذين كان يفترض أن يشاركوا في الحفلة، لم يحصلوا على تأشيرة


قبل ذلك بنحو أسبوع، بدأت البروفات ومعها بدأت تتكشّف الإيجابيات والسلبيات. الإيجابيات تكمن في مستوى الموسيقيين الرفيع (نسبةً للعالم العربي لا مقارنةً بأوروبا أو أميركا) وبديناميكية المايسترو الشاب جورج قُلْتَة وميزاته المحترمة في هذا الموقع وهذه المهنة. السلبيات تكمن في المكان ذاته! في الموسيقيين وقائدهم، وهذا موضوع سنتوسّع به لحساسيته (راجع مقالة خاصة في الصفحة). من ناحية أخرى، لوجيستية إن أردتم، هناك أيضاً سلبيات وإيجابيات سبقت الحفلة. فما إن تحط الطائرة في مطار القاهرة حتى تطالعك كميات هائلة من يافطات بكافة الأحجام عن معرض عسكري يقام في بين 3 و6 من الشهر الجاري. من المطار إلى الفندق كذلك الأمر. وفي كل قرنة وزاوية إعلانات عن هذا المعرض. في المقابل، لا يوجد إعلان واحد عن حفلة زياد الرحباني، في حين حُجزَت لوحة إعلانية في الطريق المؤدية إلى التجمع الخامس، لحفلة… أصالة. لوحةٌ لا يوجد بحجمها الضخم في لبنان، ولا ربما في العالم. أضف إلى تلك الثغرة التنظيمية، أن مبيع البطاقات جرى عبر الإنترنت. فنان شعبي من فئة زياد الرحباني، مدعو إلى القاهرة، العاصمة الأكثر شعبية بين الدول العربية، أما البطاقات فعبر الإنترنت فقط. ونِعْم الدهاء التنظيمي! كل هذا أدى إلى عدم امتلاء الصالة الأنيقة الضخمة التي جرت فيها الحفلة (تتسع لـ1600 مع شرفة وبضعة لوجات وتم افتتاحها قبل نحو سنة، بمواصفات غاية في الأناقة والرهبة). حسناً، الإعلان عن الحفلة لم يكن كافياً، والبطاقات تحتاج إلى أناس High-tech للحصول عليها. لكن، ألا يكفي ما نشرته الصحافة المصرية قبل الحفلة وما تم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإذاعات لملء 1600 كرسي في بلد المئة مليون نسمة من أحفاد سيّد درويش والقصبجي وزكريا أحمد وأم كلثوم والسنباطي وعبد الوهاب والشيخ إمام وغيرهم، قبلهم وبعدهم، ممن أسسوا لذائقة موسيقية وشغف فني في مصر؟ هل هناك أقرب من زياد إلى مزاج المصريين الموسيقي؟ «ده فيلم أميركي طويل»، «شو هالإيام»، «ليك»، «عطل وضرر»، «عشقانة»، «وقمح»، «سلملي عليه»، «حبيتك تنسيت النوم»، «بما إنو»، «أمريكا مين؟»… هذا بعض ما ورد في الحفلة. أليست هذه الأعمال أقرب إلى الجو المصري من أي مكان في العالم، بما فيها لبنان؟ ومع ذلك، غاب المصريون عن السمع.
أمضى زياد أسبوعاً في مصر بين البروفات والفندق. البروفات الأولى جرت في مكان يُعَدّ قصاصاً للموسيقيين بسبب محيطه غير المريح وبعده عن الفندق. التعامل مع الفرقة لم ينمّ عن احترام كبير للشخص الذين أتوا معه. الغرفة التي نزل بها زياد في الفندق لا تقبل بها فنانة درجة عاشرة. لكن الرجل ليست هذه طلباته الأساسية. الأساس عنده تقدير ما أتى ليبشّر به: الجمال. جمالٌ عُرقِل نشره ولم تلتقطه الصحافة (راجع مقالة خاصة في الصفحة) وفات كثيرين ممن لم يعلموا بوجوده وعومِل ببعض «الاستلشاق» من بضعة موسيقيين وأغفل المنظمون أهميّته…
مصر ليست بخير، ولا نحن.