الموسيقيون في مصر جيّدون. لا شك. قدّموا حفلة ممتازة، شابتها أخطاء قليلة نظراً لضيق الوقت. لا بأس. لكن، ما لمسناه أن بعضهم يفتقد للجدية في العمل، وهذه ليست مصيبة كبيرة مقارنة بعجرفة بدا أنه يعاني منها أحدهم، وأدّت إلى قلة أدب، وكادت أن تؤدّي إلى تعطيل الحفلة. فأحد عازفي التشيلّو، ممن يعتقدون أنفسهم من طراز روستروبوفيتش، لم يرضَ بملاحظة بمحلّها، فعرقل عن قصد آخر بروفة وسُمِعَت شريكته (موسيقية في الفرقة) تتفوّه، قبيل العرض بدقائق، بكلام نابٍ، لو وصل إلى مسامع زياد الرحباني لطارت الحفلة. يا أخي، زياد فنان مبدع، مؤلف موسيقي فريد، وله كامل الحق بإعطاء ملاحظات قاسية أحياناً. مرافينسكي، الذي لم يكن مؤلفاً، بل قائداً «فقط»، أمضى 50 عاماً على رأس أوركسترا لينينغراد، ولم يقل صباح الخير مرة واحدة. كان يوبّخ ويطرد. وإن طرد، ستالين لا يمكنه فعل شيء مع المطرود. كل ذلك في سبيل تقديم نتيجة أذهلت العالم الكلاسيكي، بما في ذلك في الولايات المتحدة الأميركية. كارايان، القائد، أسمَع ريختر، عازف البيانو، كلاماً قاسياً، ومع ذلك أكمل الأخير العمل لتسجيل الكونشرتو الثلاثي لبيتهوفن (مع أوركسترا برلين، إلى جانب روستروبوفيتش على التشيلّو وأويستراخ على الكمان). اهدأ… تواضَع… أنت خادم الموسيقى، أو لن تكون موسيقياً بحياتك، وهو كذلك على الأرجح.عدا عن هذه الحالة النافرة، البعض الآخر من الموسيقيين المصريين لم يتحلَّ بالجدية بحدّها الأدنى. البروفة الأخيرة عند الثانية بعد الظهر ونصف الموسيقيين ما زال في بيته! أما المايسترو، فهو حريص ومهنيّ وجدّي، لكن نقطة ضعفه هي عدم معرفته العميقة بريبرتوار الرحباني، ما فوَّت فرصة القراءة الأدائية للأعمال. لقد كان تنفيذياً لا أكثر (متى يجتمع قلب هاني سبليني وعقل جورج قُلْتَة بمايسترو واحد؟). لكن كان بإمكانه بذل بعض الجهود للاطلاع أكثر على تسجيلات متوافرة بسهولة، وهذا أيضاً ينم عن خفة في التعامل مع الحدث، رغم إعجابه بزياد وتقديره للتجربة. فقد قال لـ «الأخبار»، على هامش الحفلة: «هذا الحدث هو تجربة مختلفة. فريدة من نوعها. لأن موسيقى أستاذ زياد ذات نفس أصيل وهي جديدة ومتطوّرة جداً في الوقت عينه. فيها الجاز والموسيقى الكلاسيكية والموسيقى العربية. فهو يجمع بين أنماط عدة، وأنا أحب هذا المزج ومسرور جداً بالتجربة. لذا، أعتبر ذلك تحدّياً كبيراً بالنسبة إليّ، وهذا يدفعني إلى استخدام كل خبراتي». إلى جانب المايسترو جورج قُلْتَة، أبرز المشاركين في الأمسية هو المغني الأساسي وعازف العود المصري حازم شاهين. لقد كان مذهلاً في الأداء. حتى من عرفه في مشاركته مع زياد في لبنان، كان ليلاحظ أنه وضع قلبه وحبة مسكٍ فوقه في هذه الحفلة. أدى «شو هالإيام» كما لم نحلم بسماعها. وكذلك فعل بالنسبة إلى «راجعة بإذن الله» و«أمريكا مين؟»، التي سرت أحاديث جدية بين الموسيقيين أنها ستتسبّب في مشكلة وطالبوا بحذفها من البرنامج، لكن زياد أصرّ على إبقائها واستخدم حازم أسلوب «عليّ وعلى أعدائي»، فشدد على العبارة النابية فيها (سبب القلق) بدلاً من التحايل على لفظها لتخفيف وطأتها. حازم، اسمٌ على مسمّى وطفلٌ بجرأتَين: فنية واجتماعية. إلى جانب حازم، قدّمت شيرين عبده أجمل مساهماتها مع زياد، فتخطّت كل مشاركاتها السابقة، وأبدعت بـ «عشقانة» (التي لم توَفَّق بها في «إهدنيات» عام 2015) و«ده فيلم أميركي طويل» الكلثومية المزاج و«سلملي عليه» و«حبيتك تنسيت النوم» و«ليك»، التي قاربتها (جميعها) بصوتها الشعبي الحاد من زاوية طربية مصرية محببة. أما المفاجأة فكَمنَت في تمكّنها من تقديم النتيجة الجيدة ذاتها في أغنيات مختلفة الطابع بشكل جذري، مثل «معلومات مش أكيدة» و«صباح مسا». إلى شيرين انضمت النجمة صوتاً وحضوراً دعاء السباعي لغناء «البنت الشلبية»، في حين انفردت بـ «كيفك إنت» (التي استهِل بها الحفل بعد «مقدّمة 83») و «بكتب إسمك يا حبيبي» و«اشتقتلّك» و«بعدك على بالي». كنّا نعرف أن شيرين ستبلي حسناً في الأمسية، لكن لم نكن نتوقّع أن دعاء بنبرتها الرخمة وأدائها الحسن ستضفي على هذه العناوين رونقاً خاصاً... رونقاً مصرياً معاصراً.