في شارع في بيروت، عند تقاطع في لوس أنجلوس، في زقاق باريسي، أو في أبعد نقطة في بيونس آيرس، قد يخطر في بالك أن تتصفح كتاباً من الشعر لجورج لتراكل، رواية لنجيب محفوظ، أو مسرحية لصموئيل بيكيت: كل ما عليك فعله صديقي القارئ هو أن تخرج بطاقتك الائتمانية من محفظتك، ثم تفتح هاتفك الذكي على موقع «أمازون» العملاق، تضع عنوانك البريدي ورقم البطاقة الائتمانية ليصلك كتابك المفضل بعد أيام معدودة، بفضل ما توفّره الإمبراطورية التي فاقت في قوتها ما كانت عليه روما في الأزمان الغابرة. لكن مهلاً، ثمة وجهة نظر أخرى ترفع بطاقة حمراء في وجه «أمازون»، والعولمة والإمبراطورية. ألم يتشكّل ذوقنا الأدبي في تلك المكتبات الصغيرة في أزقة المدن وفي شوارعها الخلفية أحياناً؟ لسنا وحدنا في هذا الركن من العالم من يقف في وجه الغول، فالروائي والمخرج البلجيكي جان فيليب توسان وغيره من الكتّاب ممن جمعهم دوني مولّا، نجل مؤسس مكتبة Mollat العريقة في بوردو، في كتاب بعنوان «مانيفستو من أجل المكتبة»، يشاركوننا وجهة النظر ذاتها. في هذه المرافعة ضدّ «أمازون»، يبدأ توسان باستحضار حميمية العلاقة مع الكتب وتشكّل الذوق الأدبي من خلال ما عايشه في مكتبة أمه في بروكسيل. يستحضر الخطر الذي يمثّله «أمازون» اليوم على الإبداع الأدبي، وسعي الشركة للترويج للكتاب «السهل» و«البيست سيلر»، وإغراق المركب بما يحمل من روائيين مبتدئين وناشرين ومكتبات على شاكلة مكتبة الأمّ. هنا مقتطف مترجم من نصّ مولا. لفترة طويلة، لم أكن مفتوناً بالكتب. كان أبي صحافياً وكاتباً، ولم تكن أمي قد أمست بعد صاحبة مكتبة، لكنها كانت تقرأ بكثرة. كان البيت ممتلئاً بالكتب، التي كانت توجد في كل زاوية. أثناء طفولتي، كان هناك مداورةً خمسون كتاباً على الطاولة المنخفضة لغرفة الجلوس. يجب أن أعترف أن الأمر لم يكن يمتلك أي جاذبية بالنسبة لي. لوهلة، تولّد لدي نفور تجاه الكتب. من بعدها بفترة طويلة، شرعت بالقراءة والكتابة، وأستطيع القول حتّى، وبشكل إشكالي، بدأت بالكتابة قبل القراءة. في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين عادت عائلتي إلى بلجيكا، قررت أمي أن تفتح مكتبة في بروكسيل. تصميم هذه المكتبة، عشته من الداخل، وعرفت كواليس هذه المغامرة. إن أول ذكرى حقيقية عن المكتبة هي إذن مكتبة أمي. كانت ولا تزال تسمى (Chapitre XII). كان أهلي يعرفون الكثير من الناس، كان أبي رئيساً للتحرير ثم مديراً لجريدة اسمها «المساء». بسرعة فائقة، بدأت أمي بتنظيم اللقاءات. في الذكرى الثلاثين للمكتبة، قامت أمي بجردة لكلّ الذين مروا من هنا، وكان الأمر مُدهشاً، من جيسكار ديستان إلى جان أورميسون، ومن روب-غرييه إلى بيتر أوستينوف. كانت هذه طريقة أمي في إنشاء صالون أدبي حديث، ولست متأكداً من أن المكتبة تمثل صفقة مربحة من الناحية الاقتصادية. لقد استثمرت أمي في المكتبة بدافع الشغف، وملكيتها للمكان ساعدتْها بلا شك، إذ لم يكن عليها أن تدفع الإيجار. لقد أحبّت دائماً أن تجمع الناس. في البداية، كانت تقدم الكرواسان وقهوة الأحد الصباحية. كان هناك الكثير من الصحافيين، ورجال من الاتحاد الأوروبي، ورجال السياسة، كان يمكن أيضاً اللقاء بمصمم الرقص العظيم موريس بيجار، وكنّا دائماً ما نلعب الشطرنج. المكتبة قائمة في حي سكني، في غاية الروعة في بروكسيل، لكن لا يصلها ممر، أي أنها ليست في الموضع المثالي من الناحية التجارية. قلت إنها كانت أشبه بالصالون الأدبي، لكن يمكن تشبيهها أيضاً بغاليري الأعمال الفنية. أظن أن الحساسية تجاه بروست ووفائي لهذا الكاتب، يأتيان من أمي. كان بروست الكاتب الفيتيش بالنسبة لأمّي. لقد تكلمت عنه طوال الوقت، وكان الأمر غير قابل للنقاش. كان أبي يقرأ كثيراً، ويمتلك ثقافة عالية، وكان بمقدوره أن يفضل كتّاباً مثل سارتر، ومالرو، ممن ليسوا على رأس قائمتي المفضّلة. كانت لأمي أذواق نخبوية، مثل بروست، لكن اهتمامي بكافكا أو بيكيت لا يعود الفضل فيه إليها، ولو أنها كتبت لي منذ فترة قصيرة: «أعرف حماستك لبيكيت، يعجبني الأمر إلى درجة أني أحتفظ بذكرى أظن أنك قد نسيتها، تعود لبداية علاقتك به. كان لك من العمر ست أو سبع سنوات، ثمانٍ على الأكثر، حين قرأتُ لأختك ولك، مقطعاً من Molloy على تلك الأريكة الخضراء من الصالون في شارع لوجون. الغموض المطمئن للمشهد، مثابرة البطل على إنجاز الهدف الذي كان يصبو إليه، لقد استمعتم بخشوع إلى القراءة ولكني لست متأكدة أنكما قد أحببتماها. على أي حال، لقد بقي منها أثر...». لكن في الحقيقة، لا أذكر شيئاً من هذه الأقصوصة، لدي انطباع بأني قد اكتشفتُ بيكيت بنفسي، بشراء كتبه من مكتبة صغيرة مقابل ساحة لوكسومبورغ في نهاية الثمانينيات.
اليوم، نحن في قلب التغير المقلِق. لكننا لم نخسر الحرب. لا يمكنني إلا أن أفرح حين أرى متجر Fnac، ذئب أعوام الثمانينيات تلك، تنحصر نشاطاته اليوم في بيع ماكينات صنع القهوة. أشخاص مثل جيروم ليندوم، صاحب «دار مينوي» العريقة ممن ناضلوا من أجل السعر الموحّد للكتاب، كان من أول من تحسس الأخطار الآنية والمستقبلية في وقتها على المكتبات الصغيرة المستقلة، كانوا يقاتلون متجر «فناك» بشراسة، لكني متأكد من أنهم كانوا يقصدون «أمازون»!
اليوم، «أمازون» هو الخطر. الجمهور ليس واعياً بما فيه الكفاية للأخطار المحتملة لـ «أمازون». يمكن للناس أن يجدوا الأمر عملياً للغاية، وفي غاية السهولة. إذ أن التمظهر الاقتصادي للفكرة هو في غاية الفعالية: الموقع الإلكتروني هو في غاية التنظيم، تسليم الكتاب هو في غاية السرعة، والأمور تجري بشكل رائع. لكنها ليست إلا حورية بحر مخادعة، غناؤها ماكر، وجاذبيتها مخاتلة. «أمازون» يغوي في الظاهر، لكنه في الباطن يهدم كل شبكة المكتبات المستقلة. الهدف الوجودي الوحيد لشبكة «أمازون» هو كسب أكبر مقدار من الربح، وهي تقوم بذلك مزدرية القوانين المحلية، وموظفيها أنفسم، والشيء الذي تقوم ببيعه.
عملية إعادة تصميم النشر والطباعة، ترتكز بشكل كامل إلى الكتب التي يصوّت لها الجمهور


بالنسبة لـ «أمازون»، الكتاب ليس سوى منتج، كود الكتروني، وهذا ليس له علاقة البتة بما تحمله كلمة «كتاب» من نباهة وشفافية واعتداد. من أجل الربح ولا شيء سواه، تقوم «أمازون» بالتحايل على الأنظمة المحلية للهروب من الضرائب، وتسحب الكثير من الرساميل الجماعية المحلية، كما أنها تغلق من الوظائف أكثر مما تخلق. لكن الأمر لا ينتهي هنا، إذ أن أمازون تمثّل خطراً حقيقياً على الإبداع الأدبي. بالطريقة ذاتها التي اختفى فيها بائعو الأسطوانات الموسيقية في السبعينيات والثمانينيات، حين عجزوا عن منافسة أصحاب المتاجر الكبيرة، كذلك سيكون على المكتبات الصغيرة أن تغلق أبوابها، لتصير «أمازون» اليوم القطب الأوحد، ولن تتكلف الشركة المذكورة عناء بيع الكتب المصنفة بالصعبة، أو الحساسة، أو غير المرغوبة من «المستهلك».
بعد أن تقضي على منافسيها، لن تبيع «أمازون» إلا الكتب عالية المردود، المريحة، «البيست سيلر» وكتب الجوائز الأدبية. سنكون أمام عملية تهدف في العمق إلى إعادة تصميم النشر والطباعة، ترتكز بشكل كامل إلى الكتب التي يصوّت لها الجمهور، من دون أدنى اهتمام بالإبداع الأدبي. حين لن يعود بمقدور الناشرين الاعتماد على المكتبات، التي تمثل بموظفيها صلات الوصل الإنسانية التي بمقدورها التوصية بكتب تستحق العناء، سينتهي الأمر بهؤلاء الناشرين إلى البطالة. الروايات الأولى هي حقل نموذجي لتثبيت الفكرة: إنه أمر في غاية الأهمية، لأنه هنا تتشكل أعمال المستقبل العظيمة في الإبداع الأدبي. هناك روائيون شبان اليوم، ممن أقرأ لبعضهم وهم واعدون ولامعون، منهم من هو اليوم عند روايته الثانية أو الثالثة، مثل فانسون آلميندروس وكليمون بينيخ وماريون غيو وادوارد لويس وغيرهم ممن قد نشر للتو روايته الأولى، أو من يعمل في الظل لينشر قريباً باكورة أعماله. هؤلاء هم روائيو الغد العظام، بشرط ضروري ألا وهو أن تستمر دور النشر بطباعة هذه الأعمال الأولى! لكن الأمر لا يتعلق فقط بالبقاء على خط الدفاع، إذ تقع على أصحاب المكتبات اليوم مسؤولية أن يجعلوا مكتباتهم حية، مغرية، ودائماً أكثر جاذبية. أشعر بالكثير من الراحة حين أرى اليوم، مقابل «أمازون»، هذا الكمّ من الناس ممن يستثمرون في المكتبات الصغيرة، لأن الأمر لا يتعلق بشكل بسيط بالتجارة، بل بإعطاء شكل لشغف، بتجسيد شيء مثالي، وأحياناً تجسيد أفضل ما في حياة ما: إنه نوع من الأحلام الصغيرة التي تأخذ طريقها إلى التحقق. يجب على الكتّاب أن يدعموا هذه المبادرات الصغيرة، إذ أن هذه العلاقة الحميمة مع المكتبات هي في غاية الأهمية. إننا على المركب ذاته، كتّاباً وناشرين وأصحاب المكتبات وموظفيها.
ماذا تعني كلمة «مكتبة»؟ تعني مكاناً نستطيع فيه مقاربة الكتب، نستمتع بلمس الورق، ونجد لذة في فتح الكتاب. إنها جزيرة للحرية في قلب المدينة، مكان نجد فيه النور، والابتسامة، والذكاء.

* المصدر: Denis Mollat ,Manifesto pour La Librairie, Editions Autrement 2016