ليس سهلاً أن تقدّم ناصيف نصّار (1940) في عجالة في مناسبة تكريمه اليوم في «الجامعة الأنطونيَّة» في بيروت، بالاشتراك مع «معهد العالم العربي» (راجع الكادر) في باريس. ليس سهلاً أن تفي الرجل حقَّه بعد نصف قرن من العطاء على المستوى الفكري العام كما على المستوى الأكاديمي. منذ ستّينات القرن الماضي، خطا المفكّر اللبناني النهضوي المتميّز، قدماً في «طريق الاستقلال الفلسفي»، بهدف التأسيس ﻟ «مجتمع جديد»، يتخطى الواقع الطائفي الذي تأسَّس عليه لبنان، لتتحقَّق فيه، على ما قال، طموحات الشباب اللبناني، ولا سيما «بعد هزيمة العرب الكبرى أمام إسرائيل عام ١٩٦٧» (1). إلا أنَّ شيئاً من هذا لم يحصل. وقد يكون شعوره، في ما بعد «بفقدان أي أمل بالإصلاح»، هو الذي دفعه إلى حصر اهتمامه بـ «نظريَّة القيم». يقول نصّار في هذا الصدد: «كنت قد عقدت العزم على الاهتمام بنظريَّة القيم منذ كتابي «طريق الاستقلال الفلسفي» (١٩٧٥)، لأني وجدت منذ ذلك الحين أن فلسفة العمل والقيم هي محور الفلسفة، وأن حاجة العالم اليوم، والغرب بخاصة، إلى فلسفة جديدة للعمل والقيم هي أعمق من أي حاجة أخرى» (2).
أما عن منهجيته، فيقول: «منهجيَّتي الفلسفيَّة تقضي الانطلاق في التفلسف من مشكلات الحياة الراهنة، الحياة العميقة المتدفقة، المتجدّدة، المتصارعة مع نفسها، في مستوياتها كافة، وليس من تاريخ الفلسفة، مع العلم أن الفيلسوف لا ينسلخ أبداً عن تاريخ الفلسفة» (3).
في أي حال، فقد كان ناصيف نصّار قد انطلق في مساره الفلسفي الذي يحاكي ثقافة العصر بدراسة الفكر الواقعي عند ابن خلدون - عنوان الأطروحة (بالفرنسيَّة) التي نال على أساسها شهادة الدكتوراه في الفلسفة من «جامعة السوربون» عام ١٩٦٧... الأطروحة التي شاء من خلالها تظهير مفهوم الحداثة في التراث العربي وتفعيلها في الزمن الحالي... ليُصدر بعد ذلك، كتابيه الأساسيّين: «نحو مجتمع جديد/ مقدمات أساسيَّة في نقد المجتمع الطائفي» (١٩٧٠)، و«طريق الاستقلال الفلسفي/ سبيل الفكر العربي إلى الحريَّة والإبداع» (١٩٧٥)، اللذين رسم بهما معالم الطريق لمرحلة جديدة في الفكر العربي المعاصر، ركيزتها العقل وقيم الحرية والديمقراطيَّة والعدالة والمساواة.
قارب نصّار في كتاباته اللاحقة مشكلاتٍ عدّة، من «مفهوم الأمة بين الدين والدولة»... إلى «الإشارات والمسالك/ من إيوان ابن رشد إلى رحاب العَلمانيَّة»، مروراً بـ «الفلسفة في معركة الأيديولوجيا»، و«تصورات الأمة المعاصرة»، و«منطق السلطة/ مدخل إلى فلسفة الأمر»، و«التفكير والهجرة/ من التراث إلى النهضة العربيَّة الثانية»، و«باب الحرية»، وغيرها... وما إلى ذلك من قضايا، جعلَت منه، وعن حق، رائداً لـ «نهضة عربيّة ثانية».
لقد رسم نصّار لنفسه، وكما رواد النهضة الكبار من شبلي شميّل إلى هشام شرابي، خطاً فكرياً منهجيّاً متماسكاً، قارب من خلاله، وبلغة العصر، كلّ القضايا الفكريّة... فكان ديكارتياً في مطارحاته، عقلانياً، يؤثر في قوله الفلسفي الجدليَّة الواقعيَّة الاجتماعيَّة. تأثر بالفلسفة الغربيَّة الحديثة والمعاصرة، ولا سيما منها الفكر النقدي.
رسم معالم الطريق لمرحلة جديدة في الفكر العربي المعاصر، ركيزتها العقل وقيم الحرية والديمقراطيَّة والعدالة والمساواة


كما لا بد من الإشارة إلى تفاعله وتأثره بالفكر العربي في مراحله المتقدمة كافة، من العصر الوسيط إلى الحديث والمعاصر... مع التنويه بالمكانة التي استحقها في ثقافته فكر انطون سعادة الاجتماعي.
إلى جانب انهماكه بالكتابة والتأليف، شغل نصّار مناصب عدّة، فكان أستاذاً زائراً في «جامعة لوفان» عام 1978، وأستاذاً للفلسفة، على امتداد أربعة عقود، في الجامعة اللبنانيَّة، وعميداً لكلية آدابها بين عامي ١٩٩3 و ١٩٩7... وبعد ذلك، عميداً لمعهد العلوم الاجتماعيَّة بين عامي 2001 و2003.
يسجَّل لناصيف نصَّار دفاعه الشرس عن ضرورة إبقاء مادة الفلسفة في المناهج التعليميَّة يوم حاول بعض قصيري النظر في ما سمي «خطَّة النهوض التربويَّة» المساس بها.
سبق لقسم الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة (الفرع الثاني) أن كرَّمه عام ٢٠٠٠، قبل أن يتصدّر اسمه عام ٢٠٠٨، سلسلة «اسم علم» التي تُصدرها الجامعة الأنطونيَّة ... بكتاب عنوانه «ناصيف نصّار علم الاستقلال الفلسفي» والذي تضمّن تعريفاً به وبمؤلفاته، ومجموعة دراسات حول فكره.
ويأتي تكريمه اليوم من «معهد العالم العربي» في باريس، والجامعة الأنطونيَّة، وفي هذا الزمن العربي الهجين بالذات، تأكيداً، ليس على أنه قامة فكريَّة كبيرة في الثقافة العربيّة المعاصرة فحسب... بل إن فكره، كما فكر أمثاله من رواد النهضة الفعليّين، هو الطريق الأنجع للخروج من العثار الذي تتخبط فيه مجتمعاتنا العربيَّة، وبالتالي، إعادة بنائها على القيم الديمقراطية، ولا سيما الحرية والعدالة ومبادئ حقوق الإنسان.

1. 2. 3. ناصيف نصَّار ــ علم الاستقلال الفلسفي، مقتطفات من «يومٌ في حياتي» صفحة 341.

* «ناصيف نصّار مكرّماً»: 17:00 بعد ظهر اليوم ــــــ «الجامعة الأنطونية» (الحدث بعبدا) ـ للاستعلام: 05/927000ــــ مقسّم: 1051



برنامج التكريم
بدءاً من الخامسة من بعد ظهر اليوم، تحتضن «الجامعة الأنطونية» (الحدث ـ بعبدا) احتفالاً تكريمياً لناصيف نصّار. ينطلق البرنامج بكلمة رئيس الجامعة الأب ميشال جلخ، تليها كلمة مدير عام «معهد العالم العربي» في باريس معجب الزهراني، ثم كلمة مدير كرسي المعهد الطيب ولد العروسي. وتتخلل البرنامج وقفات وأضواء على نتاج ناصيف نصار الفكري والفلسلفي مع نخبة من الاختصاصيين والباحثين اللبنانيين والعرب والأجانب هم: عبد الاله بلقزيز (المغرب)، مايكل فري (ألمانيا)، أدونيس العكرة وأنطوان سيف (لبنان). وينتهي الاحتفال بكلمة لناصيف نصّار، وتسليمه ميدالية «معهد العالم العربي» في باريس وريشة «الجامعة الأنطونية».

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية