نادراً ما كانت السينما شاعرية قبل برناردو برتولوشي (1941 ـــ 2018). وهذه طبعاً مبالغة. القصد في المعنى الأعم: لم تكن السينما شاعرية قبل «الموجة الجديدة». وإن كان هذا تلقائياً يحيل إلى غودار وإلى فرنسا، فإنه يحيل كذلك إلى المتأثرين بالغودارية، وإلى أمواج الإيطاليين. برتولوشي ظلّ لفترة طويلة واحداً من هؤلاء. يصوّر المباني كما لو أنه يكتب القصائد. يفرط من الحوارات على حساب الدلالات. يلتزم بالقضايا، أو يحاول أن ينحت الأفلام ضدّ التغيّر الرأسمالي السريع. كان تغيراً سريعاً. ومثلما انطفأ اتوري سكولا وداريو فو وقبلهما بازوليني وغيرهم، انطفأ برتولوشي أمس. انطفأ لكنه لم ينجُ من التغيرات. أفلامه تدل على تغيراته أكثر مما تدل إليه، بحيث يصير العثور صعباً عليه، ليس بين شخصياته وأبطاله، إنما بين المحطات التي توقف فيها، مطارداً القطارات التي تنخر ذكريات المدن نخراً. إصراره على مارلون براندو وحزنه على ماريا شنايدر. اعترافه بخذلان ماريا، الذي يحاول تبريره بشغف في السينما، لا يفهمه جيل الفايسبوك. شيوعيته الضائعة بين «إعادة التأسيس» و«اليسار الديموقراطي»، وبين نهاية كل شيء. أمس حين انطفأ عن 77 عاماً في منزله في روما، يمكن التصديق على الجملة الرتيبة: انتهى كل شيء.بقيت الأفلام، التي ربما، هي كل شيء أيضاً. كان «ذا كونفورميست» (1970 ـــ الامتثالي) انتقالاً تدريجياً من الماركسية إلى الفرويدية كمنهج للتحليل والفهم في السينما. وهذا لا يسقط الصورة النمطية المأخوذة عن الفيلم، أي أنه رؤية شيوعية من زاوية جديدة في زمانها للبناء الطبقي الفاشي. غير أنه ــــ وعلى طبقتين أيضاً، نظرية وتقنية ــــ لا بد من الإشارة إلى أنه في هذا الفيلم، خرج برناردو من عباءة بازوليني، وتحرر من سطوة غودار. في الشق النظري، يحاول الفيلم تصوير ما اعتقد كثيرون أنه ما لا يمكن تصويره على شاشة. الجوانب السيكولوجية في الفاشية عندما تمتزج بالمؤثرات السينمائية، كالجنس والقتل وسباق السيارات، والآن أضيف الفضاء والنزعات الأميركية الأبوكاليبسية شديدة المادية وأشياء لا يمكن تصورها. ربما الميل إلى النثر والشعر في العرض، الذي كان مألوفاً بين مخرجي «الموجة الجديدة» في إيطاليا، هو العنصر الوحيد الذي بقي حاضراً ولازم أعمال برتولوشي. ولا تعني التحولات السابقة تراجعه عن ماركسيته، ولكن «ايل كونفورميستا» كان محاولة أخرى للخروج من سلطة الوالد وسلطة الفِكر وسلطة المؤثر، عبر اضافة منهج جديد لتفسير الفاشي، غير المنهج الذي بقي سائداً لوقتٍ طويل. وكما في الشق النظري، كذلك في الشق التقني، إذ كان ذلك المشهد الشهير ــــ مشهد الاغتيال قرب التلال ــــ حدثاً في زمانهِ. تشويق مضاعف في زمن البحث عن تشويق لا يخل بالمبدأ. وإن كان الفيلم قد خان النص الأصلي لألبرتو مورافيا، وتحديداً النهاية الأخلاقية للرواية، واختار النهاية التي تعرفونها في الفيلم، فتعليل برتولوشي للخيانة كما قال لاحقاً يبرر بأسباب نظرية، بينما يصح الاعتقاد أن المخرج فضّل نهاية أكثر تشويقاً. هل استسلم للشاشة على حساب الرواية، كما استسلم الحزب الشيوعي لنهايتهِ في إيطاليا؟
غودار بماويته وراديكالياته الفائضة عن حدّ السينما، رفض الفيلم. بالنسبة إلى غودار، لا يوجد أفراد. وبالنسبة إلى برتولوشي غودار هو مسيح الشاشة الكبيرة. ما بعده ليس كما قبله. هذه الجملة التي تقال دائماً عن غودار، رددها برناردو أيضاً ولا نعرف إن كان مصدرها، كما كان بازوليني هو مصدر ثقافة برتولوشي الماركسية، وكان غرامشي قبل كل شيء، مصدر الجميع. ويا لها من مفارقة، أن هذه السيرة التي تنهل من غرامشي، تنتهي بأن يترك «ذا كونفورميست» أثراً في ستيفن سبيلبرغ، وفرانسيس كوبولا، ومارتن سكورسيزي.
كان «ذا كونفورميست» انتقالاً من الماركسية إلى الفرويدية كمنهج للتحليل في السينما

هل هذا جيد؟ ليس حدثاً جيداً بالتأكيد في الطبقة النظرية إن كنا نتحدث عن وجهة نظر ماركسية. لكن السينما طبقات. طبقة فوق طبقة. وفي الجوانب التقنية، إنصاف برتولوشي يقتضي الاعتراف بأن تأثيره ايجابي، بوصفه رمزاً من رموز «الموجة الجديدة». في «1900» (العنوان الأصلي: نوفي شنتو)، مع جيرار دوبارديو وروبرت دي نيرو، حاول التأريخ، على طريقة ايريك هوبزباوم. وهو المؤرخ، الذي اعتبره برتولوشي، إلى جانبه شخصياً ومعهما الكاتب البرتغالي الأثير خوسيه ساراماغو، آخر ثلاثة شيوعيين. حاول التجديد دائماً من دون الغرق، واستمر في مديح القديم وهجائه في آن. عمل مع «ميدوزا» للإنتاج. في إيطاليا، لا يحدث الاسم وقعاً. وإن كانت شركة يملكها سيلفيو برلوسكوني. برلوسكوني صار نفسه فيلماً دائماً، أبرز الأفلام. صورة واضحة لأفلام عهده. برتولوشي يؤكد أن سيلفيو لم يتدخل في الأفلام، ويستدل إلى ذلك كون الكتاب الإيطاليين يتعاملون مع «موندادوري» للنشر المملوكة من سيلفيو نفسه. ولكن ما نفع الأفلام التي لا يتدخل فيها أحد، إن كانت غير موجودة. الثقافة قُتلِت في إيطاليا، برتولوشي يعقب، ذات مقابلة.
كان في آخر أيامه متفائلاً بماتيو غاروني وباولو سورنتينو، بينما فضّل «يساريون» سابقون التفاؤل بحركة «خمسة نجوم». اختار في النهاية أن يكون سينمائياً أكثر منه سياسياً، استمر في التمرد. والآن، سورنتينو يحمل نابولي على كتفيه، بأدوات بصرية أكثر منها أيديولوجية. يحملها ولكن إلى العالم الجديد، من هناك حيث أخرج للعالم «البابا الشاب» بتقنيات ما بعد الموجة الجديدة بكثير. أما بيبي غريلو فتحالفت حركته مع ماتيو سالفيني. وهذا يضاعف الحزن، إذ يمرّ في سيرة مخرج ماركسي آخر. كما في «1900»، ورثة المؤسسة الفاشية حاضرون. لكن لم يعد يوجد أي راديكاليين.