في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً حمل توقيع ممثلة وصحافية أميركيتين (ميغان توهي وجودي كانتور) تتهمان فيه المنتج في هوليوود هارفي وينستين بالتحرش جنسياً بعدد كبير من النساء اللواتي دفع لهن مقابل صمتهن. بعدها بأيام، نشرت مجلة «نيويوركر» سلسلة من المقالات التي تضمنت اتهامات من نساء لوينستين بالاغتصاب، الاعتداء والتحرش الجنسيين. في ظلّ العاصفة التي أحدثتها فضائح وينستين، غرّدت الممثلة الأميركية أليسا ميلانو عبر «تويتر»: «إذا كنتِ قد تعرضتِ لتحرش جنسي أو اعتداء، اكتبي me too (أنا أيضاً) إجابةً على هذه التغريدة». هذه الدعوة كانت كافية لاستجابة آلاف النساء (والرجال) ولإعادة إحياء شعار ابتكرته الناشطة الأميركية تارانا بورك عام 2006 لمكافحة التحرش. على الفور، تحوّلت الردود على تغريدة ميلانو إلى حملة ضد الانتهاكات الجنسية لم تتوقف عند منصات السوشل ميديا، بل أصبحت عنواناً لحراك حُمّل في كثير من الأحيان قضايا أكبر من مكافحة التحرش فقط، حتى أنه أصبح رمزاً للتيارات المعارضة لسياسات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة والغرب عموماً.

بعد وينستين، توالت أسماء مئات المشاهير المتهمين بالتحرش الجنسي في إطار الحملة التي شجعت آلاف النساء والرجال حول العالم على مشاركة تجاربهم على الملأ. ولم تشذّ المؤسسات الكبرى والأكاديميا عن هذه القاعدة، فبدأنا نسمع بتشديد سياسات داخل هذه المؤسسات ضد التحرش. على سبيل المثال، أعلنت «نتفليكس» في حزيران (يونيو) الماضي عن اعتماد سياسات جديدة في هذا الشأن داخل أروقتها، من بينها مثلاً «منع التحديق في الآخرين لأكثر من خمس دقائق». في موازاة ذلك، برزت أصوات داعية إلى اعتماد أطر واضحة لـ«التراضي» (Consent) بين الشخصين الراغبين في ممارسة الجنس، بهدف تبديد أي التباس في هذا المجال. حكومة السويد أقرت في أيار (مايو) الماضي قانوناً يشدّد معايير التراضي بين الشخصين، حيث أصبح ضرورياً الإعلان اللفظي الواضح بالقبول بالمشاركة في العملية الجنسية، وعدم اعتبار مجرد السكون (passivity) علامةً على قبول المشاركة. وفي حال عدم التصريح اللفظي بالموافقة على ممارسة الجنس، بحسب القانون الجديد، سيتم اعتبار الفعل الجنسي جريمة، بغض النظر عما إذا تضمن تهديداً أو عنفاً.
نقاش «التراضي» مستعرٌ في الغرب منذ مدة وازدادت سخونته بعد صعود حراك «Me too». «إرشادات» كثيرة صدرت في هذا المجال كما ظهرت مقالات وفيديوهات ساخرة توضح أن التراضي ليس معقداً إلى هذا الحدّ وأن الفرق واضح بين شخص راضٍ بممارسة الجنس معك وآخر لا يريد ذلك. غير أن الاستنكار لم يخفت، حيث انتقد رجالٌ كثيرون «المعايير الجديدة» في تقييم فعلٍ على أساس أنه تحرش، معتبرين أن ذلك يزيل الخط الفاصل بين المغازلة والتحرش، ويخلط النيات الجيدة بالسيئة. في هذا السياق، جاءت قبل عام العريضة الشهيرة التي وقّعتها 99 سيدة فرنسية، من بينهن الممثلة كاثرين دونوف، والتي اتهمت حراك «Me too» بإحياء الطهرانية «Puritanism»، رافضةً انتراع «حق الرجال في مغازلة النساء». هذه المواقف التي صُنفت كردّة فعل سلبية (Backlash) على الحملة التي أسمعت صوت الضحايا والمقموعات، قوبلت بحملات مضادة وضعت ما اعتبرته ادعاءات الرجال بـ«الحيرة» حيال هذا الموضوع، في إطار رفضهم التوقف عن التحرش والانتهاك والتعدّي على النساء.
ومن منّا لم يشهد نقاشات محتدمة لا سيما بعد إثارة قضايا متعلقة بالتحرش، إن كانت تتعلق بمشاهير هوليوود أو بحوادث اجتماعية تحصل في الشارع أو عبر الإنترنت. الجدل في غالب الوقت تمحور حول «غموض» تعريف التحرش، والمشكلة في تأويل كلام أو تصرف معيّن بكونه ذا دلالة جنسية.
في الواقع إن هذا النقاش مليءٌ بالأفخاخ. وكأي قضية مُدرجة في خانة الصوابية السياسية (Political correctness)، تفرض مقاربتها حساسية عالية، خصوصاً أن أي نظرة نقدية تعرّض المنتقد لأحكام أخلاقية مبرمة. سنكتفي في هذا السياق بطرح ثلاث زوايا لحراك «Me too» وبعض آثاره، مع العلم أنه لا يمكن لمقال (ولا حتى لكتاب) في المرحلة الحالية أن يحيط بجميع جوانب قضيّةٍ تغلي حول العالم.

كلمة السرّ: القوة
قبل أشهر قليلة، ضجّت الأكاديميا في الولايات المتحدة بقضية أستاذة الفلسفة والدراسات الأدبية في جامعة نيويورك أفيتال رونل بعدما وجّه لها تلميذٌ سابق اتهامات بالتحرش الجنسي، أثناء فترة إشرافها على عمله في مرحلة دراساته العليا. القضية أخذت صدى كبيراً لسببين أساسيين: أولاً لكونها تطال عالم الأكاديميا الأميركي ونخبه، وثانياً والأهم لأنّ المتهم بالتحرش هو هذه المرة، امرأة.
بعد رفع الطالب نمرود ريتمان قضية على أستاذته السابقة وخروج وقائع التحرش إلى العلن، دافع مفكرون وأكاديميون عن رونل، بينهم سلافوي جيجك والمفكرة الأميركية جوديث باتلر، وهما من أصدقاء المتهمة، ما مثّل «صدمة» لكثيرين، ممن لم يتوقعوا خصوصاً من باتلر النسوية والمنظرة الشهيرة في الدراسات الجندرية أن تقف مع متهم في قضية من هذا النوع، وأن تنضم إلى صفوف هؤلاء الذين «لا يصدقون الضحية».
يرى سلافوي جيجك أنه من الحريّ القول إن تنظيمات الصوابية السياسية هي «مؤامرة يسارية ليبرالية» لتدمير أي حركة يسارية راديكالية


في مقالٍ له في «ذي كرونيكل»، يذكّر أستاذ العلوم السياسية في «بروكلين كوليدج» كوري روبن، بمقالٍ آخر لصحافية أميركية تحدثت فيه عن تحرش مديرها بها. يقول روبن إن الصحافية ميليسيا غيرا غرانت ذكرت أن الجزء الأكثر إزعاجاً من التحرش لم يكن في المحادثة الجنسية ولكن في «الإنهاك» الذي شعرت به. الطاقة التي صرفتها غرانت على التفكير بكيفية إدارة العلاقة مع مديرها، كيفية جعل نفسها متاحة للعمل وغير متاحة للتحرش، كيفية ردّها على رسائله من دون أن تعرّض وظيفتها للخطر... كل هذا جعلها تفهم الهدف الحقيقي للتحرش.
ليس الجنس هو المشكلة في كل هذا. الحديث عن «سلوك جنسي سيّئ» خلال مقاربة حراك «Me too» أفضى إلى تعليقات «قلقة» من انتشار «هلع جنسي» (Sex panic)، مثل ذلك المذكور في عريضة دونوف ورفيقاتها. ما أرادت غرانت قوله هو أن الجنس خلال التحرش ليس سوى اللغة التي يستخدمها الرجل لدفع المرأة إلى أدوار متدنية، بلا قيمة، وحتى غير مرئية. الأمر ليس في الجنس بل في «العقاب». تقول غرانت إنه علينا أن نرفض فكرة «قياس» التحرشّ بمدى شعور الضحية بكونها منتهكة جنسياً: «المشكلة ليست حول الجنس، أو مع الرجل بشكل خاص أو بشكل عام، ولكن حول القوة».
قضية أفيتال رونل، ذكّرت روبن بمقال غرانت للسبب الآتي: «مسألة الجنس، عمل رونل ومكانتها في الأكاديميا، النظرية النقدية (التي تتبناها رونل)، يسار الأكاديميا، مسألة نفاق الأكاديمين الذين اصطفوا إلى جانبها...»، كل هذا برأي روبن لم يلمس جوهر المسألة: القوة.
في ردّها على التهم الموجهة إليها، قالت رونل إنه بوسعها عرض رسائل من تلميذها يستخدم فيها نوع اللغة الإيروتيكية نفسها التي استخدمتها، ما يوحي بأن كل ذلك كان بالتراضي ومتبادلاً بينهما ومرحباً به من الطرف الآخر. يقول روبن: «إن ريتمان طالب دراسات عليا يحاول شق طريقه في الأكاديميا، حيث كل شيء يعتمد على كلمة مشرفته، الجيدة منها كما السيئة». أي إن التلميذ، في حال مجاراته لمشرفته في نمط معيّن للعلاقة، كان يحاول ألا يؤذي مسيرته في بدايتها عبر العبث مع شخصٍ بمكانة رونل وبقوّتها.
قصة هذا الثنائي، هي قصّة التحرّش في معظم الأحيان، وإن جاء هذه المرة مبدّلاً في الأدوار، فشاهدنا امرأة متهمة ورجلاً ضحية، ما يؤكد أن الهيمنة هي كلمة السر في هذا الموضوع. مدير وموظفة، أستاذ وطالبة، سياسي وصحافية، إلخ. «أنا قوي وأنت بحاجة إليّ»، تصبح هذه الحجة مدخلاً إلى إعطاء الشخص نفسه الحقّ في انتهاك الآخر وتثبيت الهوة بينهما.
لذلك، في كلّ مرة تُثار فيها حادثة تحرّش، يبدو الكلام عن «ملابس» الضحية أو «تجاوبها» أو غيرهما من الحجج التي تُستخدم للوم الضحية، مستفزّاً لسببٍ أساسيّ وهو أن اللائم أغفل أن التحرّش في الأساس ليس سوى إحدى نتائج علاقات القوة، وإن كان التعدّي من قبل عابرٍ في الشارع ضد امرأة. فالأول يعتبر أن الغلبة لا تزال له في المساحات العامة: الشوارع، المرافق وصولاً إلى الجامعات وأماكن العمل.

أن تكون «رجلاً» في زمن «Me too»
إذا كان التحرش الجنسي لغةً من لغات فرض الهيمنة، هل أثّر حراك «Me too» على هذه الهيمنة؟ للإجابة على هذا السؤال، يجدر بنا المرور سريعاً على «دراسات الذكورة» (Masculinity studies) التي لا تزال مجالاً نامياً في العالم. ففيما أصبحت الدراسات النسوية اختصاصاً متشعباً، لا تزال الدراسات التي تقارب مفاهيم الذكورة، وتعدد أنماطها، خجولة، وتعود إلى ثمانينيات القرن الماضي فقط.
تبيّن دراسات الذكورة، بحسب إحدى مؤسسيها، راوين كونل، عالمة الاجتماع الأسترالية، أنه برغم تعدد أنماط الذكورة بالاستناد إلى التعدد الاجتماعي والثقافي، هناك فكرة غربية حداثية عن الهيمنة الذكورية، أو الذكورة المهيمنة، التي تطغى على المرأة وعلى أنماط الذكورة التابعة الأخرى. هذا النمط من الذكورة هو ما يُعرف بـ«الماتشيّة» التي تنتج عن توقعات اجتماعية تقليدية عن صورة «الرجل». هذه الصورة تتضمّن قدراً من العنجهية المعزز بالميزوجينية (كره النساء)، الهوموفوبيا والميل إلى العنف، بالتزامن مع تشجيع الفتيان من سن مبكرة على قمع عواطفهم. المساهمة التي قام بها حراك «Me too» على المستوى اليومي، تصبّ بشكلٍ أساسي في التأثير على هذه الصورة من الذكورة.
قبل أشهر، كتب الباحث اللبناني والأستاذ في جامعة القديس يوسف، وسام سعادة، أن الوظيفة المجتمعية الأساسية للعدد الهائل من التحرشات الجنسية التي تحدث كل يوم هي وظيفة «حيوية» لا عبثية، وهي «الحط على عين المرأة» بأن لا شيء كفيلاً بإحقاق أي نوع من أنواع العدالة بينها وبين الرجل، في المدرسة، في الجامعة، في الوظيفة، في المستشفى، في أي نطاق.
يوضح سعادة أن التحرش فعل «بيوسياسي» بامتياز، وهو تراكم يومي لإعادة إنتاج عملية إخضاع النساء للرجال، معتبراً أنه فعل متصل بالحفاظ على «أمن العنف الذكوري» بعد تصدع البنى البطريركية وانهيار المواءمة بين الفيريل (المذكر) والماتشية (التشبيح الذكوري) التي كان جاري العمل على توطيدها والترويج لها لعقود طويلة. أهمية هذا الحراك إذاً، تأتي من كونه يمثّل علامة على مقارعة «الماتشية»، مقابل تعزيز أنماط أخرى من الذكورة، غير تلك التي لا تعيش إلا بالهيمنة على المؤنث وعلى الأنماط الأخرى.
ردّة الفعل المقابلة على حراك «Me too» وعلى إثارة قضايا التحرش عموماً، تأتي بشكلٍ أساسي من خوف متنامٍ من التغيّر الذي يطرأ على صورة «الرجولة» التقليدية. يوضح عالم الاجتماع السويسري والتر هولستين هذه النقطة بالقول: «اعتاد الرجال أن يكونوا حاكمي العالم لقرون، يتصيدون في البرية، يحمون المرأة والأولاد، يجعلون الحقول صالحة للزراعة. الرجال كانوا يعتبرون صانعي الثقافة. اليوم كل شيء تغير. الرجال أصبحوا منمّطين كقامعين، ومتهمين بأنهم يستغلون النساء والأطفال».
يمثّل هذا الحراك، تماماً مثلما يمثّل ارتفاع صوت النسويات والمثليين، تهديداً للصورة التقليدية المتوقعة لـ«الرجولة»، والتي علينا ألا نغفل أن الرجال هم ضحيتها أيضاً. يقلق الرجل من ألا يصل إلى نموذج الرجولة المتوقع منه: الحامي، المعيل، القائد، القوي جنسياً، إلخ. وحين ينجح في اعتماد هذه الصورة اجتماعياً، يقلق من خسارة امتيازاتها.
يشير عالم الاجتماع الأميركي مايكل كيمل إلى ملاحظة مثيرة للاهتمام في هذا السياق، وهي أنه في السنوات التي سبقت هذا الحراك، لم يكن الانزعاج تجاه ما يُعتقد أنه زوال امتيازات الرجل فقط رداً على تحرير المرأة، بل جاء أيضاً تجاه نموذج جديد للذكورة الخارجة من العولمة. يوضح كيمل ملامح هذا النموذج بكونه «رجل الأعمال الغني، ذا المذاق الليبرالي في الاستهلاك والجنس، وبأفكار سياسية محافظة: الذين لا يستطيعون التماهي مع هذا النموذج من النجاح، أو هؤلاء المتروكون والمخيّبون من التغييرات العالمية، يحاولون إعادة تعريف ذكوريتهم المجروحة عبر رفض المثال النخبوي الغربي». أفضل مثال على ردّ فعل «الذكورة المجروحة» هذه، إذا جاز التعبير، هو انتخاب دونالد ترامب وتأييد حملة «بركسيت». المؤيدون في الحالتين كانوا من الذكور البيض، عاملي الطبقات الدنيا، الذين يشعرون أنهم على هامش النخب المدينية. يرى كيمل أن المطالبات بـ«جعل أميركا عظيمة مجدداً»، ولإعادة الإمبراطورية البريطانية خلال حملة «بركسيت»، هي في الواقع تعبر عن شوق لإعادة إرساء نظام بطريركي قديم، وإحياء نموذج تقليدي للذكورة آخذ في التآكل. معروفٌ أن ترامب يجسّد نموذج «الماتشو» بامتياز، وهناك مواقف وتصريحات عدة أكدت ذلك، لا سيما حديثه الشهير المسرّب «Grab them by the pussy». سلوك ترامب، عوضاً من أن يعيق وصوله إلى الرئاسة آنذاك، لاقى صدىً في المخاوف من انحدار «الرجولة» الأميركية لصالح صعود النسويات والمثليين والنموذج الليبرالي المذكور سابقاً للذكورة، فجاء صعود ترامب في جانب منه بمثابة «عودة إلى الذكورة الحقيقية».

التحرش و«لعبة الجذب»
يصعب الحديث عن حراك «Me too» من دون الوقوف عند وجهة نظر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك الذي اهتمّ بالحملة منذ بدايتها وكتب سلسلة مقالات عنها، كانت كفيلة بزيادة خصومته مع دعاة الصوابية السياسية. كتب جيجك مطلع السنة الماضية مقالاً مثيراً للجدل في موقع «روسيا اليوم» (إحدى المنصات القليلة التي لا تزال تنشر له، بعدما أخذت «نيويورك تايمز» و«ذي غارديان» موقفاً منه بناءً على رأيه في قضايا من هذا النوع). المقال انتقد ما يراه جيجك مبالغة في ربط الجنس بالصوابية السياسية. يقول جيجك إن ملايين الناس، بشكلٍ يومي، يغازلون ويلعبون لعبة الجذب، مع هدف واضح هو العثور على شريك لممارسة الجنس. فعملية قائمة في الأساس على لعبة الجذب والقوة، كيف يمكنها أن تتحوّل إلى مسألة «تعاقد»؟ وماذا يبقى من الانجذاب الجنسي بين شخصين إذا صرّح كلاهما بموافقته على ممارسة الجنس علانية، حتى لا يتهم أحدهما باستغلال الآخر. أسئلة معقدة طرحها جيجك، وكررها في مناسبات عدة، وضعها البعض في خانة الدفاعات المحافظة التي تؤدي إلى التعمية عن الانتهاكات.
المقال الإشكالي أشار إلى أن الضغط التي تضعه الصوابية السياسية علينا اليوم هو لإلزام هذه «الألعاب» بجانب شبه قانوني ورسمي. يعطي مثالاً عن المبالغة، وهو ما أشيع في مرحلةٍ معينة في أعقاب انطلاق «Me too»، عن اعتماد ما سُمّي بـ«سلة التراضي الواعي» (Consent Conscious Kit)، وهي عبارة عن كيس صغير يحتوي واقياً ذكرياً، قلماً، علكة منعشة، وعقداً بسيطاً ينصّ على أن كلا المشتركين موافقان بشكل حر على تقاسم الفعل الجنسي (ما يشبه عقود الزواج المؤقت في المذاهب الإسلامية). يرى جيجك أن هذه الطريقة التي تضمن التراضي بين الطرفين، وتقطع الطريق على أي انتهاك أو اتهامات مستقبلية، هي طرق غبية و«مضادة للفعالية».
مثال آخر عن إقرار ولاية كاليفورنيا قانوناً يطالب كل الجامعات التي تتلقى تمويلاً من الدولة باعتماد سياسات تحث التلاميذ على الحصول على اتفاق يُعرَّف بكونه «تأكيدياً، واعياً، وإرادياً، للدخول في الفعل الجنسي»، وهو لا يُعطى في حالة السُّكر، قبل الدخول في الفعل الجنسي، وبغير ذلك يعاقب الفعل كاعتداء جنسيّ.
يقارب جيجك ذلك من وجهة نظر فرويدية ويتساءل ماذا إذا كان الليبيدو (الرغبة الجنسية) يدفع بالإنسان نحو الفعل الجنسي، لكن الأنا الأعلى (السلطة الأخلاقية) تمنعه، ماذا إذا كان أحد الطرفين يرغب بشغف بالعلاقة ولكن يخجل من أن يعلن هذة الرغبة؟ ماذا إذا كانت لعبة الإكراه جزءاً من اللعبة الإيروتيكية؟ يرى جيجك أن «التفاوض البيروقراطي» على القيام بالفعل، سيقتل الرغبة بالفعل الجنسي أو على الأقل ينزع الإيروتيكية عنه. تدخل في الجنس ألعاب القوة والبذاءات، بحسب جيجك، والشيء الذي يصعب الاعتراف به، هو أن هذا «بنيوي» بداخله.
ما أراد الفيلسوف الإشكالي قوله هو أن الجنس مجال معقد يضم مساحات رمادية كبرى، يصعب إلى حدّ بعيد ترجمتها إلى قوانين وقواعد. وفي مسعى إلى تعقيد النظرة إلى هذا الموضوع عوضاً من توقع إجابات تبسيطية، يقول جيجك إن تحرير المرأة جنسياً، لا يتم بواسطة الرفض الطهراني لأن تكون مشيّأة (كأداة جنسية)، ولكن حقها في أن تلعب بشكل فاعل لعبة الجذب هذه، حقّها في أن تشيّء نفسها إذا أرادت، مقدمةً نفسها ومنسحبةً كيفما تشاء. يقف جيجك في خطٍّ ثالث (وليس بهدف «التسوية»)، ينتقد «Me too»، ولكن ليس من زاوية الجناح المحافظ، وإنما من زاوية أكثر تقدّمية. يقول جيجك إن مقاربته لهذا الحراك، ليست بكونهم «مجانين جداً أو أخلاقيين جداً»، ولكن أن طهرانيتهم وتعصبهم ينقصهما، للمفارقة، «الراديكالية الكافية».

الجنس مجال معقد يضم مساحات رمادية كبرى، يصعب إلى حدّ بعيد ترجمتها إلى قوانين وقواعد


لحسن الحظ، جاء سجال قبل أشهر بين جيجك وبين المعالج النفسي الكندي اليميني جوردن بيترسون، ليزيل الالتباس في مواقف الأول والتي دفعت بالبعض إلى اتهامه بالوقوف إلى جانب اليمينيين والمحافظين. ففيما كان المؤيدون لسياسات الهويات (Identity politics) والصوابية السياسية، وحركة «Me too» يتهمون جيجك بأنه ضد حراكهم ومبادئهم، حتى أن البعض اتهمه بكونه مؤيداً لدونالد ترامب، اتهم بيترسون ومناصروه (معظمهم يمينيون ورجال)، بأنه أحد رموز ما سمّوه بـ«الماركسية الثقافية». بالنسبة لجيجك، إن نقاشاً كهذا خاطئ في أساسه: «فهناك من يخيّرنا اليوم بين انتقاد أخلاقي محافظ للصوابية السياسية (مثل بيترسون ومؤيديه)، وبين تأييد تام لهذا الحراك».
بيترسون يميل في هجومه على حراك «Me too» والصوابية السياسية عموماً إلى التنمّر والاستناد إلى نظريات المؤامرة (على القيم الغربية) لنفي القمع التاريخي للمرأة، أو لرفض النظرية القائلة بأن الهوية الجنسية هي بناء اجتماعي (Social construct). اعتبر بيترسون حراك «Me too» والسياسات المتصلة به، من النسوية إلى حراك العابرين جنسياً، كنتائج أخيرة لـ«الماركسية الثقافية» وعزمها على «تدمير الغرب».
التهمة التي يصفها جيجك بالهراء التام، يرد عليها بالقول إن ما يسميه أناس مثل بيترسون بـ«الماركسية الثقافية» هو تحديداً، ما يراه الفيلسوف السلوفيني بشكل أكثر حدة، كواحد «من آخر الدفاعات البرجوازية ضد الماركسية».
يرى جيجك أن ما يسمّى بـ«اليسار الثقافي» هو أحد مسببي الهزيمة الديموقراطية. فقد دفع اليسار الليبرالي ثمن هوسه بالقضايا الثقافية: «قبل عامٍ ونصف العام، إذا فتحت نيويورك تايمز كنت تظنّ أن المشكلة الأساسية هي أي نوع من الحمامات علينا أن نعتمد (حمامات للعابرين جنسياً، غير محددة الهوية، إلخ...)... ثم فجأة يأتيك ترامب!».
في مقابل كلام بيترسون المؤامراتي، يتحدث جيجك في كتبه عما اعتاد تسميته «شمولية الإفراط» في الصوابية السياسية، وبعض التوجهات العابرة للجنس. هذا التوجه بنظره لا علاقة له باليسار الراديكالي، لكنه بالأحرى نسخة من الليبرالية التي انحرفت عن هدفها في «حماية الحرية وضمانها». أما إذا أردنا الحديث من منطلق «مؤامراتي»، فيرى جيجك أن الحريّ القول إن تنظيمات الصوابية السياسية هي على الأرجح «مؤامرة يسارية ليبرالية» لتدمير أي حركة يسارية راديكالية. التركيز الثقافي للصوابية السياسية و«Me too»، هو برأيه، محاولة يائسة لتجنب المواجهة مع المشاكل الاقتصادية والسياسية الحقيقية، أي، لوضع قمع المرأة والعنصرية في سياقهما الاجتماعي ـ الاقتصادي.