فعلها فلان! كم قرأنا مقالاتٍ سياسية تبدأ بهذه العبارة! غالباً ما يكون ذلك ناجماً عن موقف أو فعل يخشاه الجميع لما له من ضرر، أحياناً كارثيّ، على طرف أو شعوب بأكملها. سنستعين بالعبارة المريبة، ولكن هذه المرة الموضوع فيه خير للبشرية جمعاء.فعلها الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون»! اليوم بالذات، يرى النور أكبر مشروع موسيقي خاص بمؤلف واحد في تاريخ الموسيقى المسجّلة. في الذكرى الـ333 لولادته، أنجز الألمان لمواطنهم العزيز، باخ (1685 — 1750)، مشروعاً جُمِعَت فيه كل أعماله، في علبةٍ غاية في الأناقة والدقة. تلك الأناقة والدقة اللتان نجدهما في جميع ما تنتجه عقول الألمان. بعد مشروعهم لموزار الذي صدر منذ سنتين، أي العلبة التي حوت 200 قرص مدمج (CD) في ذكرى رحيله الـ225 وجُمعَ فيها كل ما كتبه الرجل، ها هي العلبة الثانية تنضم لشقيقتها. نحن على الأرض. وعلى ذات الكوكب فريقٌ يحقّق هذا الإنجاز وينشر إصداراً غاية في الجمال وفريقٌ آخر يحقّق مع جمال و«ينشره»! إنه الجنون في الحالتَين. نحن من أنصار الفريق الأول. فريقٌ نفديه بنومنا، براحتنا، بمالنا، بعمرنا. بروحنا وبدمنا نفديه. فريق من آلاف البشر — انسوا باخ ومؤلفاته — من الموسيقيين الذين أدوا الأعمال، إلى مطوّري علوم الصوت والتسجيل ومهندسي الصوت، من صانعي أوتار الكمان ومطارق البيانو ومستخرجي نحاس الهورن وصاقليه، إلى صانعي الآلات وأساتذة الموسيقى في المعاهد، ومن مصمّمي الأغلفة ومصففي حروف الكتيّبات، إلى المدقّقين بالمدوّنات والمعلومات التقنية والتاريخية... إلى كل هؤلاء نقول حتى تنبري الحناجر: شكراً.
ماذا في هذا الإصدار؟ وما هي أهميّته؟ هذه ليست المرة الأولى التي تصدر أعمال باخ كاملةً، لكن ليس عند «دويتشيه غراموفون» ولا بهذه الأناقة والكمال. الإصدار القديم (صدر عام 2000) حوى 173 قرصاً. لن ندخل في الماضي، لكن نود الإشارة إلى أن الفرق هذه المرة يكمن في المؤلفات التي تنشَر للمرة الأولى (نتيجة أبحاث واكتشافات) وفي التسجيلات المرجعية التي تحتوي عليها العلبة التي تزِن 13.5 كلغ تقريباً.
هذه بعض الأرقام الخاصة بالحدث التاريخي: أولاً، الرقم 333، الذي تقرّر لأجله نشر الإصدار هذه السنة تحديداً، لما له من قوّة في علم الأرقام ودلالات (دينية وحسابية وبُنيَويّة مقصودة) في موسيقى باخ. من هنا يأتي اسم الإصدار الرسمي: Bach 333. أما الأرقام الباقية ذات الدلالة التقنية واللوجستية فهي: 16926 (عدد الدقائق من الموسيقى)، 5533 (عدد الـTrack)، 222 عدد الأقراص)، أكثر من 750 موسيقياً ومجموعة موسيقية مشاركون في الأداء، 10 ساعات من الموسيقى غير المنشورة من قبل من ضمنها 7 أعمال مكتشفة حديثاً، 32 ناشر موسيقى من جميع أنحاء العالم. فالإصدار مذيّل بتوقيع «دويتشيه غراموفون» بالتعاون مع «ديكّا»، لكن تمت الاستعانة بتسجيلات صدرت سابقاً عند ناشرين بارزين مثل «سوني» (لإشراك غلان غولد بالمشروع!)، «هارمونيا موندي»، «وارنر»، «دينون» وغيرهم.
بعيداً من الجانب الصوتي، في العلبة كتابان: «حياة» و«موسيقى»، الأول يتناول حياة باخ والثاني موسيقاه، يحملان توقيع أسماء متخصصّة في المؤلف الألماني، بالإضافة إلى شريط وثائقي (DVD) بعنوان «باخ: حياة شغوفة» الذي يروي فيه جون إليوت غاردينر للـBBC مسيرته مع باخ. وكما في إصدار Mozart 225، يقدّم الإصدار تبويباً جديداً لأعمال باخ، أي آخر تحديث (النسخة الثالثة) لترقيم مؤلفاته في الكاتالوغ الشهير المعروف بـBWV وهي الأحرف الأولى من «دليل أعمال باخ» بالألمانية (Bach-Werke-Verzeichnis).
مبروك سيّد باخ. ألف مبروك.