في وثائقي «مذكّرات برغي» لآن ميغالا، يقدّم رفيق مجذوب (1971) نصيحة إلى الفنانين الشباب بألّا يتبعوا الموجة الدارجة في الفن. إذا كان هناك قاعدة، وهذا مستبعد، أو رابطاً مشتركاً بين أعماله، عدا عن الخطوط المتفلّتة التي تنخر الكانفاس فهي هذه بالظبط. لا يلحق الفنان اللبناني الأردني ولا ينفق الألوان أو الحبر الأسود على هواجس الابتكار التقني. إنه التطوّر البديهي لمزاج حادّ لم تدجنه المعاهد، بينما لا يتوقّف عن إصابة السوق الفنية ورجال الأعمال القائمين عليها بالحيرة.
من دون عنوان (أكريليك على ورق ـــ 100 × 100 سنتم ـــ 2018)

انشغالات داخلية تصير على اللوحة دفقاً من الخربشات المهتزّة والضربات العصبية. ينتمي مجذوب إلى فنانين تخلّوا عن التكلّف والتفكير الزائد في أعمالهم، ما جعل من لوحاتهم، ألواحاً زجاجية شفّافة لتجاربهم الحياتية والداخلية. هكذا صنع من أعماله ووجوهه نفسها توقيعاً له. يخطّ يوميات كائن بشري هي تنويعات على وجود رتيب ومؤرق في العالم. في بداية التسعينيات، جاء إلى بيروت بعد الحرب، ليقيم معرضه الأوّل. جمعت المدينة حينها فنانين من كافة التجارب مثل أكرم زعتري ومروان رشماوي وغيرهما ممن يظهرهم الوثائقي الذي أنجزته المخرجة الأستراليّة آن ميغالا قبل سنوات عن تجربة مجذوب. كغيره من الفنانين، كان شاهداً على تلك الفترة الانتقاليّة العنيفة. وصلت هذه الشحنات سريعاً واستكانت في لوحته التي كانت أكثر براءة في مجموعته الأولى الملوّنة التي نشاهدها في الوثائقي. نعود إلى بدايات الفنان، لأن معرضه الجديد Chronic Blueprint في غاليري Art on 26th (الجمّيزة ــ بيروت) يستعيد تجربته منذ 1995 حتى عام 2018. نرى تطوّر أعمال تتدفّق بالألوان والشخوص الهلاميّة والكتابة التي استعار فيها الكثير من عناصر الغرافيتي مثل التعليقات السياسيّة الساخرة، والمواقف الاجتماعية والنسوية الفجة. يحوي المعرض الحالي لوحات من معرضه الفردي الأوّل في «زيكو هاوس» بعنوان «شوربة» (1995). مساحات لونية مشحونة بالعنف والنتوءات والجموح بدفق تعبيري بدائي يعطي انطباعاً بأن رسمها لم يستغرق أكثر من دقائق. شخوص تتبوّل على الملأ وتكشّر عن أسنان هي عبارة عن خطوط حادّة تشبه كائنات جان ميشال باسكيا.

«غراب على صبّار في علبة قصدير» (أكريليك على ورق ــ 100 × 100 سنتم ـ 2018)

حين يغيب الوجه أحياناً، يستبدله بكرسي حمام. في لوحة «دمية المطبخ» (1995)، يوجّه تهكّماً مضحكاً للذكورية التي تزجّ المرأة في المطبخ دائماً. اختار كرتونة لبرّاد ورسم عليها هيكلاً كاريكاتورياً لفتاة، وأرفقها بتعاليم الاستخدام: إنها «جاهزة للاستعمال»، «يمكن استعمالها على المجلى». حتى الفدائيون جاؤوا هم إليه وركنوا إلى أسلوبه. يستوحي بعض أعماله من الثقافة الشعبية والإعلانات مثل جملة «تعال إلى حيث النكهة تعال» لإعلان دخان «مارلبورو»... كلمة «تعال» تتكرّر بهستيرية مثل تعويذة لتدمير ذاتي أمام العلم الأميركي حيث يقف شخص يعرّي رئتيه ويمجّ السيجارة. يعتمد مجذوب في رسمه، معظم الوقت، على مجموعات تقوم على فكرة متشابهة وأسلوب متماثل كما في Rain On me عام 2015، التي خطّ فيها شخوصاً سائلة كأنما انهمرت عليها مياه أو ما هو أكثر نفاذاً منها، كالكحول التي رسم يوميات علاجه من إدمانها في «غرفة رقم 11» (2016).
انشغالات داخلية تصير على اللوحة دفقاً من الخربشات المهتزّة والضربات العصبية


مجموعته الجديدة التي تضم أكثر من 10 لوحات أشبه بحوار ذاتي، ينكفئ فيه الرسم ويحجم التعبير نحو تكثيف لحالات وأمزجة داخلية. الفنان وحده بوجهه الطولي وأنفه النافر. لكن عيناه نصف مغمضتين على كانفاس وورق أسود. بورتريهات ذاتية هي قالب لاستنزاف مرهق لا ينضب ولا يتوقّف. نلحظ الوجه وقد أصابه الهدوء أو الاستكانة، مقارنة بوجوهه السابقة التي كانت كهياكل فارغة مصنوعة من خطوط مدببة كالشوك. يرسم الرأس نفسه. التكرارات تكسرها ألوان الأكريليك والباستيل الفاقعة كالأصفر والبنفسجي والأزرق ودرجات البني المتعددة التي بها يملأ الوجه. يبهت اللون قليلاً في بعضها، فيما يحتلّ غراب أسود اللوحة بمفرده. على خلفية سوداء رسم الخطوط الخارجية لجسمه. يحطّ على نبتة صبار زرقاء أو بنفسجية، لتختفي ملامحه كأنما يد مرغت الكتلة السوداء باتجاهين متعاكسين على كانفاس بيضاء. في إحدى اللوحات، يستفيض برسم الجسد. نرى أطرافاً وأعضاء معلقة في جسد ممحي بعدما وصل إليه سائل يخرج من فوّهات أربع زجاجات كأنها مسدسات مصوّبة إليه أو إلى المتفرّج الذي لا يسلم من ندوب اللوحات.

*Chronic Blueprint لرفيق مجذوب: حتى الغد ــ غاليري Art on 26th (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: 01/570331