■- I- بعض الطروحات الفكرية في العمارة راهناً، وعلاقتها بالإرث المبني في المشرقِ العربي-I-1- علينا أن نتوقَّف عند هذه الطروحات الفكرية الراهنة، في العمارة وفي البنيان، لِنُظْهر القيم التي تختزنها، ولنحدّد الموقف منها ومدى تفاعلنا معها، وعلاقتها بتراثنا.
الطرحُ الفكريُّ الحاضرِ في الإعلامِ بكل وسائله، هو الذي يُبرزُ العِمارة راهناً، كمُنتجٍ تقنيٍّ تُنجزُه التكنولوجيا المتقدمة. يحقِّق هذه العِمارةَ رأسُ المالِ الكبير، والملكيَّةُ العِقاريةُ الكبرى. ويكتفي رأسُ المالِ في ذلك، بإعادة إنتاج ذاتِه، خالياً من أي قيمةٍ. إنها حمَّى في البناء، يدفعُ فيها رأسُ المالِ بالتكنولوجيا إلى أَعلى درجاتِها. فتُصَبُّ (بضم التاء) الخُرسانةُ على ارتفاعِ 450 متراً. ويُكْمَلُ (بضم الياء) المبنى بالهيكلِ الفولاذي، ليصلَ إلى ارتفاعِ ألف متر... هذا في العمارةِ البرجية.
أما الزجاجُ، فهو للغلافِ، وللأدراجِ، وللأرضياتِ، ولكُسوةِ الجدرانِ، ولإنتاج القواطِعِ الصلبةِ المقاومةِ للرصاص.
جونيه (حريصا/ لبنان): البيت ذو الاقواس الثلاثة وحمى البنيان العامودي

الزجاجُ لكلِّ شيء، واستثناءً، لوظيفتِه الرئيسة، أي الشفافيةُ، والضوءُ، وتواصلُ المجالاتِ المبنيَّةِ مع الخارج.
أين العِمارةُ في كلِّ هذا؟ كتلبيةٍ لحاجةٍ مركَّبة متأصِّلةٍ عند الإنسانِ كما يقولُ رفعت الجادرجي؟ في ما تروِّجه هذه الطروحاتُ، وتجسِّده هذه المَباني؟
أيةُ حاجةٍ تلبِّي؟ ونحن نقنِّع الواجهاتِ الزجاجية، بالستائرِ نحتمي بها من أشعةِ الشمسِ المحرقة؟
أَيةُ حاجةٍ تلبي؟ ونحنُ نستعمل أطنانَ العوازلِ لنحتمي بها من الحرارةِ الخانقة التي تحوطنا؟
أيةُ حاجةٍ تلبي؟ وعلينا أن نُبقي السلالَ متدليةً أمامَ الواجهاتِ، لننظِّف زجاجَها من أطنان الغبارِ المتجمّع فوقه؟
▪ سنسلِّمُ، بأنَّ التكنولوجيا تقدَّمت. وبأننا سنقِفُ مفتونين أمام ارتفاعِ المباني، وقوَّةِ مصاعدِها. وبأن الرؤيةَ من أعلى الأبراجِ، تضعُ المدى في متناولِ الإنسانِ، فينتشي، ويتمتَّعُ بهذه الرؤيةِ الساحرةِ، وقد أصبحت بمتناوله.
▪ إلا أنه علينا أن نُقِرَّ، بأن غطرسَتَها مهينةٌ، وأن ارتفاعها المبالغ بهِ، هو قامعٌ، وخارج المقياس البشري. والعيشُ في مبنى مُبالغٍ بارتفاعِه، يُصيب الإنسانَ بالغُربةِ، والكآبةِ، واللاتوازن. وهو سيَجِدُ نفسَه، معلَّقاً بين السماءِ والأرضِ، قلقاً على سلامتِه في حالاتِ الكوارث.
هل نُكمل ...؟
▪ إلا أن الطرحَ الفكريَّ السائدَ، إنما يسودُ لأن رأسَ المالِ الذي يحميه هو الأقوى. ولأن الأدوات التي تُروِّجُ له، هي الأكثرُ سطوةً. ولأن قدرَته على الإبهار، هي الأكثرُ فعاليةً في ظلِّ التبعيَّةِ الكاملةِ لرأسِ المالِ المعولم، والقمعِ المنهجيِّ للثقافةِ الوطنيَّةِ. وفي ظلِّ غيابِ ثقافةٍ معماريَّةٍ أصيلةٍ، تفتقرُ إليها كلُّ مجتمعاتِنا، وكلُّ برامِجِ تعليم العِمارة في المشرقِ العربي.
-I-2- ولكن؟
ولكن؟ هل الطروحات المعمارية السائدةِ في الظاهرِ، هي سائدةٌ بالفعلِ؟
سأُجيب عن هذا السؤال، بمجموعةٍ من الأسئلةِ – الأجوبة:
▪ ماذا عن المعمار الفارو سيزا في البرتغال؟ الحائز جائزة بريتزكر؟ هل نراهُ يعمَلُ في ظلِّ هَذه الطروحات؟ أو أنه، في أعمالهِ، لصيقُ البرتغال، بلادُ الشمسِ والبحرِ والصَّخر؟ يؤلّفُ للبرتغال، ملتزماً حاجاتِ ناس البرتغال، ويصنعُ أحجامَه لشمسِ البرتُغال، فتختالُ رائعةً تحت أشعتها، وتُثير المشاعرَ فتصنعُ العِمارة، كما عرَّفها لوكوربوزييه في كتابه الشهير «نحو عمارة».
▪ وماذا عن المعمارِ إدورادو سوتو دومورا في البرتغال أيضاً، تلميذ ألفارو سيزا، والسائرُ على خطاه؟
▪ وماذا عن المعمار تاداو اندو في اليابان، واستعمالِهِ الخُرسانة المسلَّحة في كلِّ أعمالِه. يكتُبها متعاملاً مع مُحيطِه ومعَ عِمارة اليابان الأصيلةِ، بمعارفهِ وبأحاسيسهِ، تماماً كما يعرِّف الجادرجي تعامُلَه مع العِمارةِ المحليَّة في العراق.
يتعاملُ معها، بفهمِه للعِمارةِ اليابانية الأصيلة، وبإحساسِه بأحجامها وكتلها وموادِّها. فينقلُ هذه الأحاسيسَ إلى عِمارتِه اليومَ، فتأتي يابانيَّةً أصيلةً تُبنَى اليومَ، وتُقرأُ اليومَ، لتدومَ يابانيةً، غداً وبعد غد.
▪ وماذا عن المعمار ريكاردو ليغوريتا في المكسيك؟ وهل ثمَّة شكٌّ في انتماءِ أعمالِه إلى الثقافة المكسيكية العميقة الجذور، الفاعلةِ في الحياة المكسيكية اليوم؟
▪ وماذا عن المعمار راج ريوال في الهند؟ وعن المعمار جفري باوا في سري لانكا؟
-I-3- ثمة استنتاجات تفرُضُ نفسَها:
▪1- الطروحاتُ الفكريَّةُ السائدةُ في عِمارة اليوم (العمارة البرجية نموذجاً)، تسودُ بفعلِ أدواتٍ من خارجِها (رأس المال، والإعلان، والإعلام، والمعلوماتية، والتبعية السياسية والاقتصادية والثقافية). وهي خالية من أية قيمة.
▪2– ولا إمكانية لتحديدِ مجالاتٍ للتفاعل معها، لا بل لا ضرورةَ لبذلِ أيِّ جهدٍ فكري لتحقيقِ هذا التفاعلِ، فهي مبتذلةٌ، مغرِّبةٌ.
▪3- يقودُ هذا التأكيد إلى تأكيدٍ آخر، هو وجود عمارةٍ أصيلةٍ اليوم، يُنتجها كثرٌ:
(الفارو سيزا، ألبرتو سوتو دومورا، تاداو أندو، ريكاردو ليغوريتا... وغيرهم).
العيش في مبنى مُبالغٍ بارتفاعِه، يُصيب الإنسانَ بالغُربة، والكآبة، واللاتوازن


▪4- التعلُّم من كلِّ هؤلاء، كيفَ ينقُلون أحاسِيسَهم بالعِمارة الأصيلة في بلدانِهم، إلى أعمالِهم اليومَ، هو ضروريُّ. إنه معرفةٌ ضرورية، ونتائُجها مؤكَّدة.
■- هل الحديث عن ملامح عمارة عربية مستقبلية ممكن!؟
استعملت مصطلحي ملامح، ومستقبلي، لأن المصطلحين يردان عند طلاب العمارة وفي بعض الكتابات. فمن الضروري توضيح المصطلحين.
-II-1- في المصطلحين.
▪ أن نرصُد ملامِحَ مصنّعٍ ما سيُنتَجُ (بضم الياء) في المستقبلِ، يعني أنَّ الملامِحَ المنتَظرَة، والملامحُ هي بصريَّةٌ، أي موجودةٌ في شكلِ المصنَّع،
إن ذلك يعني، أن الملامحَ التي نرصُدُها، إنما تُنتِجُها مخيِّلتنا، مستعينةً بما هو محفورٌ في عمقِ ذاكرتنا، انطلاقاً من واقِعنا الحاليِّ، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
كما يعني أيضاً، أننا نُسقِطها (بضم النون) منذُ الآن على ما سنُنتِجُه في المستقبل. وما هذا سوى شكلٌ من أشكال النَّسخِ، الذي نستطيعُ أن نقومَ به الآن، وفي المستقبلِ، وفي كلِّ زمان.
▪ أما أن نستشفَّ في قدراتِنا الراهنة، ما هو واعدٌ بأننا، وفي المستقبل، سنتمكَّن من إنتاجِ عمارةٍ تُقام (بضم التاء) في أرضِنا، وتنتمي إلينا، وتكونُ لنا، في مقاربةٍ انتروبولوجية لفهمنا لها. ونحنُ، في مشاعِرنا وفي وُجدانِنا نشعرُ أَنَّها لنا. تحتضِنُنا، وتعكُسُ طريقةَ حياتِنا المتحوِّلة دائماً بتحوُّلنا نحن، وباحتكاكِنا بحياة الآخرين، فهذا شيء آخر، يختلف كلياً عن رسمِ الملامح.

راسم بدران «قصر الحكم» (الرياض)

▪ لقد عَرِفنا في التاريخ العربيِّ المُتراكمِ، محطَّاتٍ شعرنا فيها أنه في مجالنا السياسي- الاقتصادي– الاجتماعي- الثقافي، ثمَّة من يُنتج (بضم الياء) عمارةً هي لنا، مصريَّةً عربية، أو عراقيَّةً عربية، أو لبنانيَّة عربية، أو أردنيَّة عربية...
لقد كانت بعضُ العِمارة في هذه المحطَّات، عمارةٌ لنا. فهي تتكامل مع الأمكنَةِ عندنا، ومجالاتُها المبنيَّة إنما كُتبَتْ لتُلائم حاجاتِ المنتفعين بها. وغلافاتها تجعلُهم يشعُرون بالاطمئنان، وموادُّها من تُرابِهم. بناها الناسُ أحياناً بأيديهم. ولا يَشعُرون في مجالاتِها بالغُربةِ.

-II-2- في بعض ما أُنجز.
▪ تلك كانت عِمارةُ حسن فتحي في قريةِ القرنة في مصر وقد أرادَها المعمارُ الفذُّ، للأمكنةِ حيثُ شُيِّدت، بناسِها وبتاريخهم. أرَادَها رداً واضحاً، على الانبهارِ بالموادِّ الغربيَّةِ المتدفِّقة على البلدانِ العربية ومنها مصر، بعد الحرب العالمية الثانية. ونموذجاً لمقاومةِ السيطرةِ الغربيةِ على كلِّ مقدِّراتِنا، باسمِ الرقيِّ، والتقدم، وحقوقِ الإنسان.
لقد عُهِّرت (بضم العين) عِمارة حسن فتحي لاحقاً. عهَّرها كثرٌ. فحافَظوا على غِلافها، وحافظوا على ملامِحها الأصلية، وعهَّروها في أساليبِ الانتفاع بها. فصارتْ بيوتُ الفقراءِ في مصر بكلِّ مَلامِحها، قصوراً فخمةً، ومكيَّفةً، ومُزَخرفةً، وملأى بآخر صرعاتِ الأثاثِ الغربيِّ الفاخِر، تُخفي خلفَ ملامِحها حياة ترفٍ وتبذير، لا علاقة لها بهذه الملامِح.
لم تعدْ هذه العمارةُ، ملاجئ تلبِّي حاجتَيْ الساكنين القاعديَّة بالعودةِ إلى الجادرجي، النفعيَّةِ والرمزيَّة، واستطراداً، كل ما تقدِّمُه لساكنيها من راحةٍ ومُتعةٍ، أي من «جمال».
▪ وتكرَّرت هذه المحطَّة الاستثنائية، مع بعضِ أعمال محمَّد مكيَّة في العراق في الخمسينات، وتكرَّرت مع أعمال الجادرجي في العراق أيضاً، من منتصف الستنيات حتى منتصف السبعينات مرافِقةً نهوض حركةِ التحرُّر الوطني في المشرقِ العربي.
كما تكرَّرت مع أعمال قحطَان المدْفعي، وقحْطان عَوني في العراق أيضاً، ومع بعضِ أعمالِ عاصم سلام في لبنان...
ليست ملامِح عِمارة عربيَّةٍ هذه، وإن شابَها بعضُ النسخِ أحياناً. إنها إحساسٌ عميقٌ بعمارةٍ بغدادية عربية أصيلة، نشعر به ونحن نتمتَّع بمعهدِ تدريب ذوي المهنِ الصحيَّة في بغداد، الذي ألَّفَهُ الجادرجي في عام 1966.
▪ وقد استمرَّت هذه المحطَّاتُ المُضيئَةُ مع أَعمالِ راسم بدران السابقة في الأردنِ وخارجه. ويُصبح هذا الضوءُ باهتاً في أعمالِ راسم بدران الأخيرة، في تفتيشِه العَبثيِّ عن موقعٍ عالميٍّ، يراه في الابتعادِ عن ما صنعَ فرادَته وأصالته السابقتين.
كما أنها تستمرُ اليومَ عَبر بعض أعمال جعفر طوقان وأيمن زعيتر وفاروق يغمور في الأردن، وفي بيت ساحور في فلسطين. هذا في محطَّات مضت.
ولكن؟ ولكن في قراءةٍ متأنِّيةٍ لمجالِنا السياسي - الاقتصادي- الاجتماعي - الثقافي الراهنِ في المشرق العربي؟
هل نتوقَّعُ محطَّاتٍ مشابهةٍ في المستقبل؟ قريباً ، أو بعد حين؟

■-I- العمارة في المشرق العربي والمستقبل
عليَّ أن أقولَ بدايةً، إنه من غير الممكن، بالفكرِ المِعماريِّ وحده، معالجة مسألةَ إنتاجِ عِمارةٍ عربيةٍ أصيلة، متحرِّرة من التبعيَّة والنسخِ السائدين الآن. فهذه العِمارةُ المنتَظرةُ، ستكونُ الجزءَ المرئيَّ من مجالِنا الاقتصادي الاجتماعي. ولن نستطيعَ إنجازَها إلّا بإنجاز مهمَّةِ التحرُّر الوطنيِّ والقوميّ، فنُحرِّر المجالَ الاقتصاديَّ الاجتماعيَّ، ونحرِّر معه مجالَنا الثقافيَّ، وننتِجُ بالتالي عمارَتنا، الوطنيةَ العربيَّة، جزءاً مكوناً من هذا المجالِ الثقافي الوطني المحرَّر.
لا بدَّ إذاً، من توصيف مجالِنا الاقتصادي الاجتماعي، منتجِ العِمارة عندنا اليوم، ومن البحث في السُبل الآيلة إلى تغيير هذا المجالِ، وتهيئة الظروفِ لإنتاجِ عِمارةٍ وطنيَّةٍ عربية. ولكن سأتوقَّف بداية عند بعضِ ما اعتبرتُهُ «مصطلحات».

-III-1 – الخطابُ المعماريُّ العالميُّ الراهنُ
في الخطابِ المعماريِّ العالميِّ الراهنِ، لا وجودَ لأقطاب متفاوتة القوى. هناك قطبٌ مركزيٌّ واحدٌ، وإن تعدَّدت الرؤوسُ فيهِ، يقرِّر، والأطرافُ من حوله تتبُع، وتنسخُ، لأنها إنَّما أُعدَّت لذلك.
والأطرافُ هذه (ونحن منها)، ليست أسيرةَ ماضِيها كما يزعمون، بل على العكس من ذلك، إنها لا تهتمُّ بماضيها بدرجةٍ كافية، وهي غالباً لا تعرِفُه. فنحنُ نعرفُ كلَّ شيءٍ عن نشأةِ العِمارة في الغرب: الإغريقية بعد الفرعونية، وبعدها الرومانية والبيزنطية، وصولاً إلى الباروك، والمانييريه، والركوكو، والأرديكو، وبدايةِ الحداثة، والأرنوفو، ثم الحداثةِ في انتصارِها وسقوطِها ... وكل التيارات بعد ذلك.

بيروت: الاقتباس بعد الاستقلال

▪ ولكن؟ ولكن؟ هل نعرفُ جيداً أن الأصلَ الفرعونيَّ استلهمَ عِمارة سومَر وبابل؟ والاغريقيُّ استلهمَ الفرعونيَّ؟ والنهضةُ في أوروبا هي عودةٌ مفتوحةٌ إلى الكلاسيكية الرومانية؟ التي استلهَمت الاغريقية؟ أي الفرعَونية المصريَّة قبلها؟
هل نعرفُ الكثيرَ عن العِمارة العربيَّة والإسلامية في تراكُمها؟ الزنكيَّة، والفاطميَّة، والأيوبيَّة، والمملوكيَّة، والسلجوقيَّة، والعثمانية؟ هل حافظنا في لبنان مثلاً؟ على الإرثِ العثمانيِّ، كما حافَظْنا على الإرثِ الكولونياليِّ الفرنسي؟ وهل هذه الأطرافُ، (ونحن منها)، هي فعلاً أسيرَة ماضيها في العِمارة؟ أكثرُ مما هي عليه روما، وباريس، وفيينا، في علاقتها بماضيها؟
▪ هل نسيَ لوكوربوزييه أناقةَ العِمارة الإغريقية؟ ونسيَ دُروس روما؟ عندما نَظَّر لعِمارة الحداثة؟
ولماذا علينا نحنُ أن ننسى أناقةَ العِمارة الفاطمية؟ وننسى دروسَ العِمارة المملوكيَّة؟ في تفتيشنا عن حداثةٍ تكون لنا؟ حداثةٍ ممكنةٍ؟ لا حداثةٍ كولونيالية؟ كما تقولُ رضوى عاشور.
يصوِّروننا هكذا، لنستمرَّ في تبعيتنا لهم، وليحمِّلونا وزْرَ هذه التبعية، وليأخذوا بداهةً دور المربِّي، والقائدِ، الذي لا يريدُ إلَّا الخيرَ، لهؤلاء الذين يعيشونَ في ظُلماتِ ماضيهم.
▪ فريكاردو ليغوريتا لا يعيشُ في ماضي المِكسيك، مِكسيك ما قبل المذابحِ والاحتلالِ الاستيطاني، بل ينقُل هذا الماضي بأحَاسيسه إلى عِمارةِ مكسيكيةٍ يُنتجها اليومَ. ولا شكَّ في أنها مكسيكية.
▪ وألفارو سيزا وإدواردو سوتو دومورا، ينتِجُون عِمارةً أصيلةً اليوم. ولم يفكِّروا عند إنتاجهم هذه العِمارةِ، بالجَناح «الحديثِ» الذي بناه ميزفان درروه، في المعرِضِ الدولي في برشَلونة، جارتِهم.
▪ وفقراءُ الهندِ ليسوا أسرى أي ماضٍ، وعمارةُ راج ريوال هي عمارةٌ هندية بامتياز تُبنى اليوم.
كلُّ هؤلاء وغيرُهم، ينتِجُون عِمارةً من خارجِ سطوةِ القطبِ الواحدِ، إذ رَفضوا وإن جزئياً، أن يكونوا أطرافاً يدورُون في فلكِ هذا القطب.
-III-1-1- إن جدليَةَ الأقطابِ (إذا صحَّت)، تفترِضُ وجودَ قُطبين، وهناكَ كما ذكرتَ قطبٌ واحدٌ وأطرافٌ تابعةٌ.
كما أن جدليَّة الأضدادِ هي غيرُ موجودة أيضاً، وهي من صنعِ المستشرقين. أو أنها من صنعِ القشرةِ التي تقمَّصتْ القطبَ المركزيَّ، وتوهَّمت بأنّها صارتْ جزءاً منه، وعَمِلت بهذا الوهمِ دون أن تُدرك أنها ستبقىَ هامشيَّةً، وكلُّ ما تبنيه، سيبقى هامشيَّاً، لا ينفذ إلى عمق المشاعر الوطنية والقومية.
-III-1-2- لا مجال للتفاعل في ظل معادلة: القطب – الأطراف. إنها الكولونيالية الموصوفة. وحده الكولونيالي بمركزيته وعُنصرَّيتِه، يَملك المعرفَة، والمهارةَ، والقدرةَ. له وحدُهُ، تعودُ قيادةُ الشعوبِ نحو الرفاهية ...، نحو«الحداثة». وبديهيٌّ في هـذه الحالِ أن لا حوارَ، نظراً لغيابِ المتحاورين. وهل يحاوِرُ القطبُ الواحدُ ذاته!؟
في المقابلِ هناك الجاهلُ، والمتخلِّف. قد يحقِّق هذا المتخلِّف شيئاً من التفلُّتِ. إلا أن تقدُّم الحِضارة البشريَّة ورائدُها المركزُ الغربيُّ الأوحدُ، وإغراقُ السوقِ بكلِّ ما هو جديدٌ، سيجعلَهُ تابعاً أبدياً، إذا لم يقطع حبل الصرَّةِ مع القطبِ الواحدِ المُسيطر. المهمَّةُ الأولى إذاً، هي قطعُ حبلِ الصرَّةِ، وتحطيمُ التبعيَّةِ المطلقةِ الذي يعملُ القطبُ الأوحدُ على تجديدِها باستمرار. إنها العنصرَّيةُ الفاقِعةُ، تُغلِّفُ كولونياليَّةً ونيوكولونياليَّةً، هدفُهما الإخضاعُ، والسيطرةُ، والنهبُ.
-III-2- العمارة ومجالنا الاقتصادي والاجتماعي،
-III-2-1- يعيشُ الناسُ اليومَ في مجالاتٍ اجتماعية مختلفة، تُحوِّلها مجتمعاتُهم باستمرار. وعلى العِمارة، فكراً وممارسةً، أن تُعالِج المجالَ الاجتماعيَّ المتحوِّل هذا، والمحدَّد في المكانِ وفي الزمان. وينقَسِم عالمُ اليومِ كما أراهُ، إلى مركزٍ مسيطر كما سبقَ وذكرتُ، وإن بعدَّة أقطابٍ متفاوتةِ القدراتِ والدورِ، يحتكرُ القوةَ، والثروةَ، والإنتاجَ، والتكنولوجيَا، والإعلامَ. وإلى أطرافٍ، لا تملكُ سوى الإفقار، والاستهلاكَ، والإلحاق، والتبعية، وإن بدرجاتٍ مختلفة.
وربَّما صحَّت في إطارِ هذا الانقسام، فرضية يختارُها معمارُّيو بلدانِ المركز في عملهم المهني، فرضية ٌ ترى، أنه من الممكن تصوُّرُ الإشكاليةِ المعماريةِ عندهم بتنوُّعها، داخل مُميِّزاتِ المجالِ المسيطرِ في بلدانهم، وهو مجالُ المجتمعات الصناعية، أو مجالُ مجتمعاتِ ما بعد الصناعة، أو مجالُ مجتمعاتِ التكنولوجيا العالية «الهاي تك»، أو المجتمعات الرقمية، أو مجتمعات المعرفةِ ومجتمعاتُ ما بعدِ الإنسان.
ويُصبحُ دور العمارةِ، انطلاقاً من فرضيةِ العملِ هذه، تعريف الجزء المرئيِّ من هذا المجالِ المحدَّدِ. ولا تتجلىَّ قدرة العمارةِ على إظهار تكامُل ِالمُعطيات البرنامجية، والاقتصادية، والتقنية، والاجتماعية، ومعطيات الظروف المُحيطةِ، في المُنتَج المِعماري، إلَّا عندما تتمُّ السيطرةُ الكاملة على المشروعِ المعماري. عندها، وعندها فقط، يمكنُ للعِمارةِ أن تُصبحَ قيمةً ثقافيةً حقيقية.
وهذه العمارة المفترضة، يُنتِجُها اليوم في بلدان المركزِ، بعضُ المعماريين العالميين «النجوم» (نورمان فوستر، وريتشارد رودجرز، وجان نوفل، ودومينيك بيرو، ورنزوبيانو، وهرتزوغ ودومورون، وريم كولهاس، ورافاييل مونيو...).
أما العِمارة التي تصلُنا من بلدانِ المركزِ، فهي عمارةٌ منمَّطة كأنماطِ الأزياءِ، أو كأنماطِ جراحةِ التجميلِ، تكرِّرُ نفسَها وصولاً إلى درجةِ الاستنساخ الجاف. وهي حُمَّى في البناء، خاليةٌ من أي رمزٍ أو تعبير.
-III-2-2- ومُقارنةً بهذا الفهمِ المفترضِ للمجالِ الاقتصاديِّ الاجتماعيِّ، في بلدانِ المركزِ، ما هو الاختيار الاجتماعيُّ الممكِنُ، في بلدانِ الأطرافِ المتخلّفة؟
كيف نفهمُ المجالَ الاقتصاديَّ الاجتماعيَّ عندنا؟ هذا الفهمَ، الضروري لإنتاج العِمارة.
علينا أن نُقِرَّ بدايةً، بخضوعِ مجتمعاتنـا لسيطرةِ رأس المال الماليِّ المُعولَم. وتتجلَّى هذه السيطرةُ بالاحتلال المباشر أحياناً، وبالاعتداءات العسكريَّةِ المتكرِّرةِ غالباً، وبالحروبِ الدوريَّة المنظَّمةِ تُشَنَّ علينا، متلطِّية بشعاراتٍ إنسانيةٍ كاذبة، بهدفِ تثبيت هذه السيطرة. كما تتجلَّى بسطوةِ السوقِ المُعولَمةِ تُغِرقنا بكلِّ أنواع السلعِ، وبغزوٍ فجٍّ لتفاهاتٍ ثقافيةٍ معمَّمة، وبُطغيانِ الإعلامِ المرئيِّ خاصةً.
أُغامر فأقول، إنها مواصفاتُ التبعية المطلقة، التي لا أرى خروجاً منها إلا بالمقاومةِ، أو بالممانعة كحدٍّ أدنى، (مستعملاً صيغةً رائجةً)، وصولاً إلى تلطيف ظروفِ التبعيَّةِ على الأقل.
والاختيارُ الاجتماعيُّ المتاحُ لنا في مواجهةِ كلِّ ذلك، هو اختيار المجتمعِ المقاومِ أو (المجتمع الممانع) (مكرراً استعمال صيغة رائجة).
▪-III-2-3- وكما افترضتُ، أن الإشكالية المعماريَّةَ بكامِلها في بلدانِ المركزِ، قد تمَّ تصوُّرها داخلَ مميِّزات المجالِ المسيطرِ في المجتمعاتِ الصناعيةِ، وفي المجتمعاتِ الرقمية مجتمعات المعرفة، فإن تصوُّرَ الإشكالية المعماريَّةِ بشموليتِها عندنا، عليه أن يتمَّ داخلَ خاصيَّات المجال في المجتمع المقِاوم أو (الممِانع). وذلك كي نُنمّي عندنا معرفـةً مهنيةً مقاوِمة أو (ممانعة)، في الفكرِ المعماريِّ وفي العِمارةِ كمُصنَّع، منفتحةً على المعرفةِ وعلى العلمِ الذي يرقى بالناس، ومنفتحةً على التقدُّم ذي المضمون الإنساني الحقيقي، وبعيدةً عن أي تزمُّتٍ أو ظلاميَّة.
ويؤدي ذلك عند معماريينا في بحثِهم عن هذه المعرفةِ المهنية المقاومة أو (الممانعة)، إلى نهجٍ مرَّكبٍ، قائمٍ على ثلاثةِ محاور:
في المحور الأول:
▪ دراسةٌ جدِّيةٌ معمَّقةٌ لتراثِنا في كلِّ مراحِله. خاصَّةً تلكَ التي سبَقتْ بدايةَ القرنِ التاسع عشر، أي بدايةَ ما اصطَلَحَ البعضُ على تسميته عصرَ النهضةِ العربية. وهو في الحقيقة عصرُ تثبيتٍ مبكرٍ للسطوةِ الكولونياليَّةِ في كلِّ المجالات، ومنها العِمارة. دراسةٌ تُكمِل معرفَتِنا له، وتوثِّقها، وتعمِّمها، وتجعلُها جزءاً هاماً من ثقافتنا المعمارية، ومن ممارستنا المهنية.
في المحور الثاني:
▪ دراسة منهجية لنماذجِ عِمارةِ السكنِ في المشرقِ العربيِّ. وتمتدُّ هذه الدراسةُ عندنا في لبنان وربما في سورية أيضاً، قرنين من الزمن، من أوائل القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. وتطالُ في لبنانَ كي أبقى في الإطارِ الذي أَعرِفُه، نماذجَ للمساكن لا تزالُ قائمةً إلى الآن في كثيرٍ من مناطقِنا، في الشمالِ وفي الجنوبِ، وفي البقاعِ، وفي الجبلِ.
لدينا الآن في لبنان محاولات جادة في هذا المجال، لجاك ليجيه بلير عن المسكن في لبنان، ولفريدريك راغيت عن العمارة في لبنان إبان الحكم العثماني (ولراغيت كتاب آخر بعنوان، عمارة المنطقة العربية المحلية والتقليدية)، ولروبير صليبا عن عمارة زمن الانتداب أو العمارة الكولونيالية. وقد أكمل جورج عربيد الدراسة مؤخَّراً ووصل بها إلى عمارة الستينات. يبقى أن نُكمِل هذه الدراسة، وأن نُبوِّبها بشكل منهجي، ونتلمَّس الخيط الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي– المهني، الذي يربُطها في كل مراحلها، ويحدﱢد علاقتها بالمكان ِوبناسه. ونجعَلها بعد ذلكَ جزءاً من ثقافتنا المعمارية، ومن ممارستنا.
وفي المحور الثالث:
▪ المُقاربة العقلانية لعِمارة الحداثة الأصيلة كما جاءت في أعمال روَّادها وفي كتاباتهم، وفي بعض أعمال الاقتباس الناجحة عندنا. مقاربةٌ موضوعيةٌ، ابتداءً بمنطلقاتها الإنسانيةِ، وحُلمها الطوباويِّ بتعميم أسسٍ واحدةٍ لتنظيمِ المدينة، ومفاهيمَ واحدةٍ لإنتاج العِمارة، تُساهم في رفعِ مستوى حياةِ الناس، كلِّ الناس. وانتهاءً بما آلت إليه في الواقعِ، من تعميمٍ لعِمارةِ الطرزِ الدولي التافِهة، التي تـُهدَم اليومَ في أكثرِ من مكان.
▪ والتوقُّف عند التيارات التي سادت في الفكرِ المعماريِّ في الغربِ بعد تراجُع الحداثةِ منذ بداية السبعينات، مثل ما بعد الحداثة (تشارلز مور، وروبيرت فنتوري، ومايكل غرايفس، وجيمس سترلنغ)، والتفكيكية (بيتر ايزنمن، وبرنارد تشومـي، وزها حديـد، ودانييل ليبسكنـد، وكوﭖ هيمَّلبلـو)، والمينيمالية (انطوان بريدوك، ولويس بَّراغان، وماتياس غوريتز)، والتعبيريين الجدد (هانس شارون، وبارت برنس، وفيليب ستارك، ورالف إرسكين، وسانتياغو كالاترافا)، والعمارة الأيكولوجية، (مايكل هوبكنز، ونيكولا غريمشو) والعِمارة المؤقتة، والعمارة التي ستُصبـح قريبةً من مفهومِ الخدمات...، وغير ذلك من النظرياتِ.
▪ والتوقّف المنهجي المطوَّل، عند بعض الأعمالِ النموذجية الراهنةِ، كما في اليابان (تاداو أندو)، أو في المكسيك (ريكاردو ليغورتا)، وفي بعض بلدان أميركا اللاتينية (البرازيل، لوتشيو كوستا وأوسكار نيميير، وفي كوبا، وكولومبيا، والبيرو، (الإسباني الأصل خوسيه لويس سرت)، أو في بعضِ بلدان أوروبا (فنلندا، ألفار ألتو، والبرتغال، ألفارو سيزاوإدواردو سوتو دمورا)، أو في الهند (تشارلز كورِّيا، وراج ريوال)، أو في سري لانكا (جيفري باوا)، من دون أن ننسى الوطن العربي، مصر (حسن فتحي)، والعراق (محمد مكية ورفعة الجادرجي وقحطان عوني)، والأردن (جعفر طوقان وأيمن زعيتر وراسم بدران)، ولبنان (عاصم سلام وجورج ريِّس وجاك ليجيه بلير..).
يجب أن ننظُر بموضوعيةٍ إلى الناتجِ المعماريِّ في العالم كلِّه، لا في بلدانِ المركزِ، بعيداً عن الانبهارِ، والنسخِ السطحيّ الفارغ


وتهدفُ هذه المقاربةُ المثلَّثة، في متابعةِ تطوُّر العِمارة في بلدانِ المركز، إلى تعرُّف معماريينا وطلاَّب العِمارة عندنا، على التياراتِ المسيطرةِ في عِمارةِ اليوم، بطريقةٍ موضوعيةٍ، تُبعِد عنهم الإرهابِ الفكريِّ الفالتِ، تمارسُه كل سائلُ الإعلامِ، والمعلوماتيَّةِ. كما تَهدفُ إلى إِخراجهم من دائرةِ الانبهارِ، وتسلِّحهم بفكرِ النقدِ، وبمنهجِ التحليل. كما تهدفُ أخيراً إلى إرشادهم، كي يكتشِفَ كلٌّ منهم طريقته، في التعاملِ المبدعِ مع الأفكارِ السائدةِ في الثقافةِ المُعولمة، وفي الفكرِ المعماريِّ المعَولمِ بصورة خاصة.
■- VI- الاستنتاجاتُ واضحة، والمهم منها:
▪ أن نقطع حبل التبعية،
▪ وأن يشكِّل تراثُنا جزءاً من ثقافتِنا بالفعلِ لا بالقول،
▪ وأن ننظُر بموضوعيةٍ إلى الناتجِ المعماريِّ في العالم كلِّه، لا في بلدانِ المركزِ، بعيداً عن الانبهارِ، والنسخِ السطحيِّ الفارغ.
▪ وأن نستعيد بثقةٍ، شخصيَتنا الوطنية، فنُنتِج عِمارتنا مستلهمين حاجات مجتمعاتنا.
* معمار لبناني