لإسبانيا مملكتان، واحدة متوارثة في حكم الدولة (منذ الاستعمار وقبله وصولاً إلى النسخة الصوَرية الحديثة)، وهذه يعرفها الجميع، بما أنّ السياسة أكثر انتشاراً من الفن في الحاضر عموماً، وأخرى غنائية أوبرالية أقل انتشاراً اليوم، لكنّها أطول عمراً في المستقبل. أوّل من أمس، رحلت الملكة التي سيتذكّرها التاريخ طويلاً: السوبرانو مونسيرات كابايّي (Montserrat Caballé). إنّها مغنية الأوبرا، في شقّيها الشعبي الفولكلوري والنخبوي التقليدي. لم يعرف بلدها صوتاً مثل صوتها بين النساء. مع رحيلها، تخسر إسبانيا والعالم واحدة من عمالقة الغناء في القرن العشرين. وإذا كانت إسبانيا المعنية الأولى معنوياً بخسارة الديفا المذهلة، فإيطاليا هي التي ستفتقد «خادمة» ريبرتوار مؤلّفيها أكثر من أي بلد آخر. مونسيرات كابايّي (1933 ــ 2018) تاريخ من الغناء والتمثيل في النشاط الأوبرالي العالمي، هي التي جسّدت الأدوار الأولى في الأعمال الشهيرة التي تركها إيطاليّو القرن التاسع عشر، من فيردي أوّلاً (حصة الأسد من ترْكَتها المسجّلة) إلى دونيزيتّي، ومن بلّيني إلى بوتشيني وروسّيني… إنّه الـ Bel Canto الذي كرّست له الراحلة معظم سِني حياتها المهنية بنحو غير حصري، إذ اهتمت أيضاً، بنسبةٍ أقل بكثير بالإرث الأوبرالي الجرماني (فاغنر وموزار وشتراوس وغلوك)، والفرنسي (غونو وماسّنيه).
هذا الجانب من مسيرتها هو لجمهور الأوبرا دون سواه. لكن ثمّة ريبرتوار آخر، أقل نخبوية، أوْلَته كابايّي اهتماماً خاصاً، بدءاً من المقتطفات الأوبرالية (أي أجزاء غنائية منتقاة من عمل أوبرالي ضخم)، مروراً بالغناء الشعبي الفولكلوري الإسباني (وهو تقليد عُرِف به مواطنوها وحتى زملاؤها اللاتينيون من بلدان أميركا الجنوبية) المعروف باسم الـ «زرزويلّا».
في عام 1987، كان فيريدي ميركوري (1946 ــ 1991) قد «سئم» بعض الشيء من عمله مع فرقته العالمية الشهرة في مجال البوب والروك، Queen، فقرّر توظيف طاقاته الصوتية في المجال الذي يتخطّى ملعبه الغنائي من حيث الإمكانات المطلوبة والجدية في العمل. اختار الأوبرا، ولم يستطع أن يقنع فرقته بالخطوة غير المحسوبة النتائج، فانفرد بالمغامرة، وكذلك فعلت موسيرات التي فاجأت جمهور الكلاسيك بالثنائي الذي جمعها بفريدي من خلال غنائية يتيمة حملت عنوان «برشلونة». لاقى العمل ترحيباً فاق التوقعات واعتُمدَت الأغنية نشيداً رسمياً في الألعاب الأولمبية لعام 1992. وفي وثائقي خاص عن مغني «كوين»، أفصحت كابايّي عن الصداقة المتينة التي ربطتها بالرجل الذي خطفه فيروس الإيدز بعد هذا التعاون بقليل (1991)، وعبّرت عن حزن عميق أصابها بعد خسارته.
في الغناء الأوبرالي التمثيلي أو في الريسيتالات، في الغناء الشعبي الإسباني، وفي تجربتها مع فريدي مركوري، لم تبحث مونسيرات كابايّي عن الشهرة ولا عن المجد، بل عن الفرح والإبداع والتفاني وتسخير ما وُهِب لها من طاقات لجعل هذا العالم أفضل بقليل وأقل قبحاً. بخسارتها، تنتقل الشعلة، إسبانياً، إلى خوسيه كاريراس، وإلى جيل أجدد من المغنين والمغنيات، من بينهم ابنتها الوحيدة التي تحمل اسمها.