انطفأ أول من أمس في دمشق إبراهيم الجرادي (1951- 2018)، بعد صراع مع المرض العضال. بدأت محنته بمرض السكّري، ثم باغته السرطان، ثم جلطة دماغية أفقدته النطق. كأن اليأس وحده لا يكفي جسده الهزيل ليودع في مقبرة الغرباء. لم يغنم قبراً في قريته «بندر خان» كي يغفو على كتف الفرات إغفاءة أخيرة، بعدما تقاسمت الضباع مدينته الرقة واستباحت ذاكرتها. مات بين بلدين مشتعلين. ما إن غادر صنعاء بعد إقامة طويلة حتى اشتعلت حرائق دمشق، فإذا به نهباً للحيرة والسخط والموت البطيء. من يعرف هذا الشاعر المشاغب في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، لن يصدّق ما آلت إليه أحواله في سنوات الجحيم الأخيرة. فصاحب «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» (1980)، أدرك باكراً، تمزقاته الشخصيّة، معلناً النفير الفردي في وجه الطغيان العمومي، فجاءت نصوصه مثل صفعة للذوق العام، وسيقفز خطوة أخرى إلى الأمام في الشغب الشعري واستفزاز الذائقة في عنوان مجموعته الشعرية الثانية «رجل يستحم بامرأة» (1983)، محاذياً التشكيل والفوتوغرافيا والكولاج، ليقف على مسافة من نصوص مجايليه لجهة النبرة الشعرية والعنف اللفظي وجزالة الصورة. على أن هذه النزعة التجريبية، والجرأة في تحطيم الأشكال، ستخفت تدريجاً في نصوصه اللاحقة التي ستعتني بالإيقاع في المقام الأول، ربما بتأثير من الحقبة الطويلة التي عاشها في صنعاء. هكذا سيكتب «دع الموتى يدفنون موتاهم»، و«الذئاب في بادية النعاس»، و«قصائد الضّد»، و«موكب من رذاذ المودّة والشبهات»، و«عويل الحواس» مستعيداً بداوته الأولى ورائحة القصب على ضفاف الفرات، وشجن العزلة، بهتافٍ أعلى، ويقينٍ أقلّ بجدوى قصيدة النثر والسجالات الدائرة حولها، على رغم اعتنائه النقدي بتجارب شعراء التسعينيات، من موقعه كأكاديمي (درس الأدب المقارن في موسكو)، لكنه سيصف أصحاب بعض هذه التجارب بـ «شعراء الطنين والأرصفة». هكذا عصفت بالشيوعي القديم رياح التحولّات، وضباب المرحلة، والشبهات الحزبيّة، فوجد نفسه أعزل وسط صخب الآخرين وصراعاتهم على الغنيمة، فانسحب من عضوية المكتب التنفيذي في اتحاد الكتّاب العرب ليقع في ورطة الخنادق المتحاربة، وأختام شهادات حسن السلوك، واصفاً حياته بأنها «تمارين على الألم»، وفي روايةٍ أخرى «تربيتُ كي أكون نافراً كقلم رصاص ضابحاً كذئب في بادية». في الرقة أواخر ستينيات القرن المنصرم، كان إبراهيم الجرادي أحد مؤسسي «جماعة ثورة الحرف» (1968). بدو وجدوا في الكتب والكتابة ملاذهم، بعيداً عن متاهة قوانين العشيرة وسطوة القبيلة وقيمها المتوارثة، وسيغامر الفتى بإرسال قصيدته الأولى «شطحات البسطامي» لتُنشر لاحقاً في مجلة «الآداب» البيروتية. كما سيتعرّف عن كثب إلى سجالات الحداثة في مجلة «شعر». يقول: «نهم القراءة وحده من أنقذ حياتنا القلقة في تلك البادية المنسيّة، إلى الدرجة التي تجعل تمرّد ألبير كامو تمرّداً شخصيّاً يخصنا في الدرجة نفسها، نحن جيل ما بعد هزيمة حزيران، ذلك الجيل المشحون بالرفض الوجودي، وطاقة التمرّد، وشهوة الهدم». لاحقاً ستذهب قصيدته إلى فضاءٍ آخر، ففي «محمود درويش ينهض»، يستعير بلاغة الشاعر الراحل وإيقاعاته في مرثية طويلة، بدت كما لو أنها مرثية مبكرة للذات وتمزقاتها وإجهاضاتها، وستعلو نبرة الهتاف والغنائية في نصوصه الأخيرة التي تسعى إلى اصطياد ألفاظها من بحيرات قصيّة، رافعاً مستوى السخط والنزق واليأس من بلاد ذاهبة إلى الهاوية «لستُ محظوظاً، فلا ظِلٌّ ولا ماءٌ لديْ، في بلادِ القَحْطِ، لا قلبٌ ولا عينٌ عليّ/ بَدَداً صيّرني الوقتُ، وقلبي مُسْتَباحْ/ وأنا حقلٌ من الشيحِ، ستسفوهُ الرياحْ/ وأنا أحمل ميراثي، وميراثي دمايْ/ لستُ محظوظاً لكي أغفوْ على وترٍ ونايْ». اللاجدوى، أو فضيلة الكسل جعلته يراكم نصوصه التي كتبها أخيراً، في الأدراج، من دون أن يجمعها في كتاب، لطالما وعد بنشره تحت عنوان «حديقة الأنقاض» في رهانٍ على تشظي الكتابة، بإلغاء الفوارق بين أشكال التعبير، ويذهب بعيداً في خلط الأجناس، من دون أن يؤدي إلى التناقض. نص كلّي لا يخضع لتوصيف معيّن، ولا يستسلم لمشهدية مستقرّة، لعله ترجيع بصري للمشهد السوري اليوم بكل اضطرابه «مخطوطات نائمة في ثيابها لم يعد ينفع اليقين في دفعها للنشر، لقد صارت متعة الكسل أهم من أضرارها» يقول. لكن هل رحل إبراهيم الجرادي بكل فوضاه حقاً؟ الوليف والأليف، النافر والحزين، المخذول والمهدّم، صاحب النخوة البدوية، والغريب الخاسر، ليخلد أخيراً، إلى «متراس التعب».


خارج لغة النحاس ورنينها
أنا متعب وحزين، ويقيني لا أرض له، أجمع، أو هكذا يخيل إليّ، مفاتن هاربة من زمنها، وألقي ما تبقى من جثة الأمل في بحور اليأس، لتتكسر بلاغتي عند حدود صباحها المغبّر، والألقاب تثقل، عليّ، لأنها، أحياناً، أو أغلب الأحيان، تحليل يزدهي بغير قدرته، طيور من جبصين يابس، كلما لمستها تعرى طينها وتساقط غباره، وهي، أحياناً ـ وخاصة عندما تكون خارج إطارها، تهمة بالغة أو كأنها كذلك ـ للشعراء تحديداً، والألقاب غير عادلة، أحياناً أخرى، وتغتصب حقاً، ليس لها.
■ ■ ■

الشاعر صوت، بل صوت أبيض في منتصف الليل، وهو خارج لغة النحاس ورنينها، كما أفترض، ولذا أفترض، أيضاً، أن الشاعر لا يتكئ على غير ساعده، ولا يشرب إلا من ماء نبعه.
■ ■ ■

على الشعر أن يوقظ الجمال من نومه، كي يقوم بمهامه اليومية المفترضة، وعليه أن يضرم النار في حشائش الباطل، والكاذب، والقبيح، ويهدم أبنية الظلام، والخطل، والدسيسة، ويقيم على أنقاضها ما يغوي الموج والسهل والأغاني من دخول حديقة الحياة.
* من أوراق الشاعر