غيرترود بيل... السيرة الملتبسـة لـ «ملكة الصحراء»

  • 0
  • ض
  • ض

من خلال كتاب «سوريا: البادية والغوطة» الذي تصدر قريباً ترجمته العربية عن «دار التكوين» (راجع المقال أدناه)، تعود غيرترود بيل (1868- 1926) إلى الواجهة. بيل وتوماس إدوارد لورانس... شخصيتان بريطانيتان جمعتهما المصادفة، فلعبتا دوراً محورياً في إعادة تشكيل المنطقة العربية بعد إشعالهما فتيل «الثورة العربية الكبرى» وإنهاء وجود الإمبراطورية العثمانية. كانت الشابة الإنكليزية قد أنهت دراستها التاريخ في «جامعة أكسفورد» للتو، كأول امرأة تدرس هذا الاختصاص، قبل أن تتعمّق في دراسة الآثار واللغات الشرقية القديمة، إثر زيارتها طهران حيث كان خالها سفيراً لصاحبة الجلالة هناك. امرأة متمرّدة على أعراف العصر الفيكتوري، لم تشغف بتقاليد الطبقة المخملية والغراميات، فنأت بنفسها بعيداً عن هذه الأجواء بالغرق في القراءة. زيارتها الأولى إلى الشرق، كانت منعطفاً في حياتها، إذ لم تتوقّف بعدها عن الرحلات إلى هذه المنطقة، من اسطنبول إلى القدس، ودمشق، والجزيرة العربية، والقاهرة، وانتهاء ببغداد. سحر الصحراء والتنقيب عن الآثار، وفتنة المغامرة قادتها للعمل مع المخابرات البريطانية، بوصفها خبيرة في جغرافيا الأسطورة والرمل. التقت لورانس للمرة الأولى في منطقة حفريات أثرية، لتكتشف لاحقاً بأنه ضابط انكليزي، وستجمعهما مهمة واحدة: تحريض الشريف حسين على التمرّد على العثمانيين، فتَحتَ هذه الرمال الملتهبة تكمن آبار الزيت التي لم تُكتشف بعد. هيمنة الرجال على المهمات الصعبة لم تثن عزيمة «ملكة الصحراء» في تحطيم الأسلاك الشائكة. ارتدت الزي البدوي، وامتطت الجمال، واقتحمت مجالس الرجال في الصحراء والمدن، بالحماسة نفسها التي ترجمت بها أشعار حافظ الشيرازي، بعد تعلّمها الفارسية. في زيارتها إلى القدس، قرّرت أن تتعلم العربية، وما أن أتقنت هذه اللغة الصعبة، بالمقارنة مع اللغات الأخرى، بدأت رحلة طويلة عبرت خلالها نهر الأردن نحو أريحا، ثم حوران، وصولاً إلى دمشق وتدمر (سنتعرّف إلى أصداء رحلتها هذه في كتابها «سوريا: الصحراء والزرع»). وسوف تعود إلى الشرق مرّة أخرى، في رحلة عمل رصدت خلالها التقاليد والفلكلور والأعراف عن كثب، من حلب إلى بغداد وبلاد فارس ثم الموصل. في هذه الفترة، التقت مارك سايكس الذي كان يعمل على هندسة حدود الجغرافيا العربية وتمزيقها إلى دويلات، فاصطدمت معه حول نظرته للعرب: «فصحاء، غشاشون، سريعو الانفعال، وجبناء». دافعت عن قيمهم وتقاليدهم كأصحاب حضارة قديمة. باشتعال الحرب العالمية الأولى، باتت حاجة المخابرات البريطانية إلى بيل ملحّة، باعتبارها خبيرة بإرث العثمانيين من جهةٍ، ونمط تفكير العرب، من جهةٍ ثانية. في القاهرة التقت لورانس مجدّداً، قبل أن تتوجه إلى نجد والحجاز، لتعد تقريراً مفصلاً عن أحوال «الرجل المريض»، وطبيعة النزاعات بين القبائل العربية. هكذا سيكلّف «لورانس العرب» ـ باقتراح من بيل ــ مناصرة الشريف حسين في ثورته على العثمانيين، وسيرافق الملك فيصل الأول إلى دمشق لاستلام عرش سوريا. لكن الاتفاق السرّي بين سايكس وبيكو سوف يجهض المهمة. في البصرة، سنلتقي بيل ثانية، وهذه المرّة برتبة رائد، لمعاضدة الجيش البريطاني في احتلال العراق. لم ينصت الجنرالات إلى نصيحتها بكسب ولاء شيوخ العشائر العربية لتسهيل زحف الجيش إلى بغداد، فتفشل الحملة الأولى. في مكتبها، وكانت منهمكة في رسم خريطة العراق الجديد، يسألها أحدهم، عمّا تفعل بكل هذه الخرائط؟ فتجيبه «اختراع البلد الذي من المستحيل أن يُخترع». بعد تمكّن الجيش البريطاني من احتلال بغداد، نقلت عملها إلى هناك، وكانت المستشارة الأولى للملك فيصل الأول، فيما سيطلق العراقيون عليها اسم «خاتون بغداد». فجأة، انقلبت الموازين. مؤامرات ووعود كاذبة، واندلاع «ثورة العشائر» في العراق احتجاجاً على الحكم البريطاني المباشر، على عكس ما نصحت به بيل، بإشراك العراقيين في الحكم. أوسمة وأمجاد ورحلات، ثم إهمال لتاريخها. انشغلت في آخر أيامها بتأسيس المتحف العراقي. كان فيصل الأول قد أمر بإقامة نصب للخاتون، على أن يوضع في مدخل المتحف عند افتتاحه، لكنها انتحرت قبل أن تكحّل عينيها به. اثناء احتلال أميركا لبغداد (1993)، نُهب المتحف، ولم يبق سوى تمثال بيل في الواجهة!

0 تعليق

التعليقات