أعطيت أريثا فرانكلين (1942 ــــ 2017) لقب «ملكة السول» باكراً. من كان سيرفض لقباً كهذا وهو في العشرين من عمره؟ حنجرتها هي من حسم الأمر، قبل أن تقولها لاحقاً بصراحة، إن أحداً لن يرفض لقب «الملكة». قبل حفلتها على مسرح «ريغال» في شيكاغو الستينيات، ألبسها الدي. جاي بيرفيس سبان تاج هذا اللقب الذي سيلازمها حتى رحيلها في منزلها في ولاية ديترويت أوّل من أمس. التجنّب الاستباقي للنوستالجيا، لن يسعف مع رحيل آخر المغنيات الأفرو ــــ أميركيّات، على اختلاف تجاربهن الغنائية وأصواتهن. نساء جبلن من الصوت وحده، وبه وحده عبرن فوق لعنة أن يكنّ نساء وسوداوات في بلاد جيم كرو.

به أجهرن بالرغبة، وبالبؤس، وأفرطنَ بالدراما أو رقصن في الحانات الرثّة في الجنوب الأميركي، وبه رفعن الروائع الموسيقية التي صنع منها السود بديلاً سمعياً مدهشاً عما كانت تقدّمه أميركا حينها. أمهات البلوز بيغ ماما ثورنتون ومامي سميث وما رايني والجيل الأجدد من مغنيات الجاز كسارة فون وبيلي هوليداي وإيلا فيتزجيرالد ممّن انخرطن في النضالات النسوية بفطرية مطلقة، أو بالنضالات السياسية التي دفعت بمغنية كنينا سيمون إلى التنازل عن مهنتها وأرباحها. امتلكت أريثا المقدرة الصوتية والأدائية المتدفّقة لنساء تلك الفترة، واستطاعت بفضل شخصيّتها ونشاطها وإطلالاتها الإعلامية وفي المناسبات الرسميّة أن تصلها إلى الجيل الأجدد من الفنانات. هكذا كانت حنجرتها صلة الوصل بين مغنية كبيسي سميث وبين ويتني هيوستن التي عبّرت مراراً عن امتنانها لفرانكلين. السرطان الذي أصيبت به منذ 2010، رافقها، كمستمع ربّما، في حفلات ظلّت تقدّمها حتى هذه السنة، التي كان يفترض أن تشارك خلالها في مجموعة مهرجانات عالمية؛ من بينها حفلة في «مهرجان نيو أورلينز للجاز».
أمس، انتشر مقطع مصوّر لفرانكلين، أرفق بعبارة «أريثا فرانكلين في دخولها إلى الجنّة». عبورها لهذه الطريق، كما يظهره الفيديو في ثوان، كان يتم بخلعها رداءها لدى اعتلائها خشبة أحد المسارح. الفيديو مع التعليق، يصلحان اختصاراً مرحاً لعبورها من نمط الغوسبل الديني الذي يحيل إليه «دخول الجنّة» إلى نمط السول بأسلوبه الدنيوي والحسّي.

انتقال تزامن مع ما اعتبر «تسييس» الغوسبل عبر توليف بعض الأغنيات لتجاري حركة الحقوق المدنيّة خلال الخمسينيات والستينيات. انتمت أريثا إلى من تحمّسوا لتحرّر الغوسبل من طابعه الديني، وانفتاحه ليس على ما هو سياسي فحسب، بل على كل الأنماط الموسيقيّة الأخرى. يمكن حصرها في نمط السول في حالة واحدة فقط، هي بقدر ما اتسع السول لكل أنماط الإرث الموسيقي الأسود. هكذا سمع صوت فرانكلين للمرّة الأولى في الكنيسة التي كان والدها مبشراً وواعظاً فيها في ديترويت، حيث انتقلت إليها العائلة من ممفيس التي ولدت فيها فرانكلين. إلى جانب الغناء، كان تعلّم العزف على البيانو متاحاً في الأجواء الموسيقيّة والغنائية العائلية من أمها مغنية الغوسبل وفنانين كانوا يتوافدون إلى منزل العائلة مثل سام كوك، وملكة الغوسبل ماهاليا جاكسون التي تركت تأثيراً كبيراً عليها، كما اعتنت بها لفترة بعد وفاة أمها. وفي إحدى مقابلاتها مع «التايم» في الستينيات، قالت إن أشدّ ما دفعها إلى الغناء كان استماعها إلى مغنية الغوسبل كلارا وارد خلال دفن عمّتها. هكذا استهلّت تجربتها بنمط الغوسبل في ألبومها الأوّل «أغنيات الإيمان» (Faith Songs) الذي سجّلته في الكنيسة عام 1956 وهي في الرابعة عشرة. جرّبت بعدها أنماطاً سوداء أخرى مثل الجاز، واستعادت أغنيات لدينا واشنطن في فترة عقدها مع شركة «كولومبيا» (1960 ــــ 1996)، سجّلت خلالها 9 ألبومات. عام 1967، شكّل ألبومها «لم أحب رجلاً مثلما أحبك» (I never loved a man the way I love you) محطّة فارقة في مسيرتها.


باع الألبوم ما يقدّر بمليون نسخة بعيد إصداره، وضمّ أبرز الأغنيات التي صنعت اسمها؛ منها تسجيل أغنية Respect لأوتيس ريدينغ الذي عرف، منذ أن استمع إليه بصوت فرانكلين والانتشار الذي حقّقته، أن الأغنية لم تعد له. كان عليه أن يقتنع بموهبتها مغنو السول الآخرون في تلك الفترة مثل سام كوك الذي غنّت له أيضاً، وراي تشارلز الذي وصف صوتها بأحد أعظم ما سمعه في حياته. حقبة الستينيات، التي قدّمت لها الشهرة، فرضت عليها المشاركة في حركة الحقوق المدنية حينها كمعظم الفنانين السود. انخراطها النضالي يسبق غناءها في حفل تنصيب باراك أوباما بسنوات. بداية، مع زيارات مارتن لوثر كينغ إلى منزل العائلة، ومرافقته بجولات كثيرة إلى المدن الأميركيّة. كما كانت قد قدّمت عرضاً بأن تدفع كفالة لإخراج المناضلة أنجيلا ديفيس من السجن، ودعمت حملات الحركة وجولاتها من خلال ريع الحفلات، واتخذت من أغنية نينا سيمون السياسية «أن تكون يافعاً، موهوباً وأسود» عنواناً لأحد ألبوماتها. منذ ذلك العام حتى 1972، أطلقت أريثا حوالى 9 ألبومات مع «أتلانتيك ريكودرز»؛ من بينها Lady Soul الذي ضم أشهر أغنياتها مثل Chain of Fools و(You Make Me Feel Like) A Natural Woman. وsoul 69. لم يقلل العمر من كثافة الإنتاج. تخطّت تسجيلاتها الأربعين ألبوماً؛ من بينها الأعمال التي أصدرتها في التسعينيات ومزجت فيها أنماط السوينغ والفيوجن والفانك والهيب هوب وRnb كما في A Rose is Still a Rose عام 1998، وصولاً إلى أعمال أخيرة استعادت فيها بعضاً من أغنياتها بصوت ظل مدهشاً، رغم سنوات طويلة من التدخين والكحول ومشاكل الوزن الزائد.