مفزعٌ هو الموت، يتسلل ليأخذ المبدعين واحداً تلو الآخر. كان السرطان هو الذي تمكّن أخيراً من الإعلامية و«العوادة» والمغنية العراقية اللبنانية سحر طه. من كان يعرفها، كان يدرك تماماً أي نوعٍ من المبدعين هي: كانت تغني وترسم، تكتب وتلحّن، وفوق كل هذا كان تمتلك بصيرةً فنيةً ناقدة جعلتها لسنوات اسماً رئيساً في عالم النقد حيث كانت تعمل في صحيفة «المستقبل» (منذ عام 1999). ولدت طه في العراق لعائلة مثقفة. فوالدها هو الشاعر المعروف هادي الخفاجي. كان لهذه العائلة أثر كبير عليها، فغنت وهي لا تزال طفلةً بعد أمام وزير التربية، كما نشرت لها أغنياتٌ للأطفال في التلفزيون العراقي إبان تلك المرحلة. لاحقاً، تخصصت في إدارة الأعمال في الجامعة المستنصرية في بغداد عام 1984، حيث تعرّفت إلى زوجها سعيد. سرعان ما أصبح شريك العمر، لتنتقل معه إلى لبنان، وتحصل بعد ذلك من الكونسرفاتوار الوطني على شهادةٍ في الغناء والعزف على العود عام 1989... العود الذي اعتبرته ابنها الرابع بحسب قولها في إحدى المقابلات: «لدي ولدان، زوجي والعود». بعد ذلك، نالت الدكتوراه الفخرية من «جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة» لجهودها في إحياء وحماية التراث الفني العراقي من خلال بحوثها ودراساتها. لكنها لم تكتفِ بذلك، بل صممت أن تكون لها بصمتها الخاصة، فكتبت كثيراً عن المقامات العراقية، فعدّت ركناً أساسياً من حماة هذا الفن الراقي الذي امتاز العراقيون بتأديته. في أفقٍ موازٍ، لم تكتفِ بالغناء، بل أكملت نشاطها الإعلامي، فكتبت في صحيفة «المستقبل» اللبنانية نقداً فنياً وثقافياً، وشاركت في تقديم وإعداد العديد من البرامج التلفزيونية (المستقبل، الـ art وسواهما) وكذلك الإذاعية («بنات حواء» على إذاعة لندن)، مفضلةً الابتعاد عن الفن المبتذل والهابط، سواء في كتابتها أو مقابلاتها.
كتبت كثيراً عن المقامات العراقية، فعدّت ركناً أساسياً من حماة هذا الفن


في الوقت عينه، كانت طه ترسم حين يسمح لها الوقتُ بذلك، فزينت جدران منزلها بالعديد من اللوحات الجميلة. لاحقاً عادت وأنشأت فرقة «عازفات عشتار» عام 2004 وضمّت عازفة العود سلمى هلال، والقانون ميراي عبادو والناي سناء شبانة، والدف هناء خوند، والطبلة والإيقاعات المنوعة رانيا قطّار. كان اختيار التسمية لارتباط سحر طه بالأرض والأساطير المؤسسة للثقافة لأن «عشتار هي بدايات الخلق في الأساطير». تخصصت الفرقة في الغناء الصوفي، فأنشدت رابعة العدوية وابن عربي والحلاج والجنيد البغدادي وابن غانم المقدسي الأندلسي، وحتى بعض شعراء معاصرين مثل العراقيتين لميعة عباس عمارة، وعاتكة الخزرجي، واللبنانيين سامي مكارم، رياض فاخوري، هدى نعماني، باسمة بطولي. غنت لوالدها «ودعتُ بغداد» التي قالت عنها بأنها «أغنية عمري وحياتي وترجمت بها كل حبي وأشواقي ومشاعري للعراق». على جانب آخرٍ، لا يمكن أبداً نسيان تجربة طه في غناء قصائد مترجمة للأديب الألماني غونتر غراس الذي قدمته في ألبوم «سحر طه تغني غونتر غراس». عرف عن طه عشقها للأغاني التقليدية العراقية مثل «جي مالي والي» و«يا أم العيون السود» و«فوق إلنا خل» (معروفة شعبياً بـ«فوق النخل») التي كانت تؤديها بطريقتها الخاصة والشخصية التي جعلتها مطالبة بتأديتها في كل حفلاتها. قدمت العديد من الحفلات في العالم العربي والغربي، وكانت قد كرّمت غير مرةٍ وكان من ضمنها وضع صورتها على طابع بريدي قدمته لها الجالية العربية في ولاية ميشيغان تقديراً لفنها. ظهر السرطان لديها عام 2003، لكنها انتصرت عليه في المرات الأوائل بفضل «زوجي وأولادي وحبي للحياة» على حد تعبيرها في إحدى المقابلات. بعد أول مرحلة شفاء، عادت بقوة إلى الساحة الفنية، فأنشدت وغنّت وأشارت ذات مرّة إلى أن لديها «زاوية خاصة في منزلها مخصصة للموسيقى، وعلى كل مريض بهذا المرض أن يسعى وراء ما يحب، لأن ذلك من شأنه أن يخفف المرض وأن يقاومه». ترحل سحر طه تاركةً خلفها أثراً فنياً وثقافياً كبيراً. ترحل مقاومةً مرضاً عضالاً، ترحل على طريقتها، وهي التي كانت دائماً تقول بأن «الفن مقاومة، وإن كان شعري (تقصد حين أصابها المرض) قد أبكاني مرةً، فإن العراق أبكاني غير مرةٍ، لكننا نأمل ونظل نأمل بأن الغد القادم أفضلُ بكثير».