لندن | ليس ممكناً على الإطلاق فهم المنتج الأدبي للروائي فيديادار سوراجبراساد نايبول (1932 – 2018) الحائز جائزة «نوبل» للآداب عام 2001 و«بوكر» عام 1971. الكاتب الذي انطفأ في بيته في لندن أول من أمس السبت، لا يمكن فهمه من دون عبور شخصيته الأشبه بجراب يجمع كل متناقضات القرن العشرين في قلب رجل واحد، أو سيرة الحصار المتنقل التي حملها داخله في كل مكان أخذته إليه الأقدار قبل أن يسكن في الموت، الوطن الأخير لكل المشرّدين. هذا الروائي الذي ينسج نصوصه كصائغ ذهب محترف، كتبَ ــــ عبر أكثر من ثلاثين رواية ـــــ صراخ أرواح يقتلها الاغتراب أينما حلّت. في كلٍّ منها شيء من تجربته الذاتيّة وسيرة تشرده الروحي بين جذوره الهنديّة، ومكان نشأته في ترينيداد، وقفص منفاه الإنكليزي المذهّب، وأسفاره حول العالم... حتى ليكاد يكون التمثيل الأكثر انطباقاً على صورة «معذبي الأرض» كما وصفهم فرانز فانون في كتابه الأشهر (1961): «إحساس دائم بالقلق، تشوّش تام في فهم رموز الاستعمار، لا يعلم بتاتاً إذا كان داخل الخط الفاصل أو خارجه، شعور دائم بالذنب في مواجهة العالم الذي شكّله له مُستعمره، مع رفض مستدام لهذا الشعور الذي يشكّل بالنسبة إليه لعنة أبديّة كما سيف ديموقليس مسلّط عليه». نايبول كان بالتأكيد ضحيّة كلاسيكيّة لأشغال الإمبراطوريّة البريطانيّة التي ـــ إن لم تقتل البشر بالعنف الدموي ــــ قتلتهم بتشويه عالمهم كلّه، فماتوا ببطء ينزفون بشريتهم يوماً بيوم.
مع ذلك، كان نايبول وحده طرازاً بين هؤلاء «المعذبين في الأرض». هو تقمّص أعلى نماذج العجرفة الانكليزيّة حتى غلبت على تجربته الأدبيّة ذاتها. وهو في هذا الدّور أساء إلى أقرب الناس إليه، وجمع الأعداء، كما يجمع الهواة قطع العملات أو طوابع البريد.
ولد نايبول وأمضى مراهقته في أقصى أطراف الإمبراطوريّة البريطانيّة في ترينيداد. والده كان ضمن شحنة من العمّال الذين نقلتهم سفن إنكليزيّة من الهند لسدّ نقص الأيدي العاملة في مزارع السكّر. ومع أنّ هؤلاء لم يكونوا عبيداً بالمعنى التقني للكلمة، إلا أنهم كانوا يعيشون حياة عبوديّة مقنعة. فلا هم يقدرون على البقاء حيث هم، ولا هم يريدون العودة إلى بلادهم. بعد تعب عمر، تمكّن الأب من شراء منزل تافه، وكان يكاتب صحيفة الـ «غارديان» البريطانيّة، لكنّه لم يغادر الجزيرة البائسة قط. وقد كتب نايبول الإبن تصوره عن حياة أبيه الذي قتله الاغتراب في روايته الأشهر «منزل للسيّد بسواس» (1961)، كما سجّل في «شارع ميغيل» (1959) بؤس العيش في مدينة بورت أوف سباين، العاصمة التي إنتقل إليها في السادسة من عمره.
كان نايبول يحس بالاختناق في ترينيداد المهمشة قبل أن تمد الإمبراطوريّة الأعظم حينها يدها إليه وتعطيه إحدى منحها السنويّة الأربع للدراسة في جامعات بريطانيّة، فانتقل إلى أكسفورد. كانت تلك النقلة الحضاريّة أكبر بكثير من قدرته على الاحتمال، هو المراهق الآتي من اللامكان إلى قلب مصنع الثقافة البريطانيّة، فأصيب بانهيار عصبي وكآبة لم تكد تفارقه، إلا بعدما تدفقت أموال الشهرة عليه بعد عقود. مع ذلك، أكمل دراسته وامتص، أثناء ذلك كما اسفنجة، أصول النظرة الإستعلائيّة الإنكليزيّة تجاه كل الملوّنين. ويبدو أنّه لعدم رغبته في العودة موظفاً استعماريّاً لخدمة سيده الأبيض في ترينيداد، تورّط عام 1955 بالزواج من فتاة بريطانيّة من أصول فقيرة هي باتريشيا هيل، كانت قد حصلت بدورها على منحة للدراسة في أكسفورد. ورغم أن تلك الفتاة منحته كل حياتها ووقتها لخمسة عقود متتالية، إلا أنه عاملها بقسوة، وكان يزور بائعات الهوى في كل مكان يذهب إليه، واحتفظ بعشيقة لمدة 24 عاماً، وتزوج من زوجته الثانية بعد أيّام من رحيلها مكسورة مهزومة كامرأة لم يرد «العبقري» ـــــ كما كانت تصفه ــــــ أن ينجب منها، ولم يرغبها جسدياً.
بعد نشر سيرته «الرسميّة» التي كتبها باتريك فرينش («العالم هو ما هو» – 2008)، اعترف نايبول بأنّه ربما قتل على نحو ما السيّدة هيل، بجحوده وسوء عشرته. وتابع أنه عندما علم بأن عشيقته خرجت مع رجل آخر، استمر يضربها ليومين متتاليين حتى لم تعد تقوى على الخروج من المنزل لبعض الوقت.
اختلف نقاد الأدب في تقييمهم لأعمال نايبول. بينما وجدها كثير من الغربيين نافذة هامة للإطلالة على تجارب الشعوب المُستعمرَة، ومنحوه الجوائز الأدبيّة الأرفع في الغرب، اعتبره آخرون ـــــ لا سيما إدوارد سعيد وجماعة ما بعد الكولونياليّة ــــ مجرد بوق للاستعمار ينتج أدباً وفق النمطيات التي يرى الغرب بها العالم خارج حدوده. كما رأوه نموذجاً كلاسيكياً لحالة الإنفصام التي يعيشها المثقفون الملونون الملتحقون بالثقافة الغربيّة. وقد اعتبر سعيد أعمال نايبول عن الإسلام والمسلمين، بأنّها فضيحة ثقافيّة تامة لما فيها من تنميط وانحياز واجتزاء. مع ذلك، فإن معارفه (لأنه لا يملك أصدقاء فعليين) وأعداءه على حد سواء، لا يختلفون على موهبته الأدبيّة الفائقة.
اعتبره إدوارد سعيد وجماعة ما بعد الكولونياليّة مجرد بوق للإستعمار


كتب نايبول كل أعماله بالإنكليزيّة ـــــ لغة مستعمرِه – لكنه لم يكنّ تقديراً لأيّ من الكتاب البريطانيين: لا جورج إليوت، ولا تشارلز ديكنز ولا أحد. كان يمقت جين أوستن تحديداً ويعتبر أعمالها ثرثرة فارغة لا تعنيه بشيء. حقده هذا على كتاب العالم الأبيض الذين اعتبرهم أقل منه شأناً، ويقرأ لهم لمجرد استكمال ثقافته العامة عن التراث الأدبي العالمي ـــ على حد تعبيره ــــ فاقه فقط حقده على الأفارقة الذين وصفهم بالمتخلفين، وعلى الهنود الذي «يمكنهم أن يقضوا حاجتهم في كل مكان».
أكثر أعماله تعبيراً عن مآزقه النفسيّة ربما كانت روايته «في دولة حرّة» (1971) التي تحكي قصة صبي هندي خادم يرافق سيّده في رحلة إلى واشنطن دي. سي في الولايات المتحدة. وهناك يقرر البقاء وتغيير مصيره. وهو بالفعل يعيش في المجتمع الجديد الذي يدعه لحاله ليس لأنه مجتمع متحضر، بل لأنه مجتمع يزدريه ولا يأبه له.
رفض نايبول كل الفضاءات التي أطلقته الإمبراطوريّة البريطانيّة فيها، فعبرها جميعاً من دون أن يرى في أي منها أوطاناً، بل اختلى إلى ذاته المتضخمة كردة فعل على الإزدراء المتجذّر، وصنع إمبراطوريّة وحده، حملت مع ألقها كل نزق الإمبراطوريات وعنجهياتها وعجرفتها وأخلاقها السيئة، إلى أن أسلم الروح وإنتقل إلى حيث ينتهي كل المعذبين في الأرض.