الجزائر | عن 93 عاماً، غيّب الموت «المجاهدة» والمناضلة اليسارية والناشطة النسائية الجزائرية ليلى مكي، التي ارتبط اسمها بإعلان استقلال الجزائر، إذ انتُدبت لقراءة بيان إعلان الاستقلال خلال التجمع التاريخي الذي نظمته جبهة التحرير الجزائرية في باريس، يوم 5 تموز (يوليو) 1962، وقد اعتُمد لاحقاً بوصفه يوم «عيد الاستقلال».دخلت ليلى مكي (اسمها الأصلي أم جيلالي بلحاج) معترك النضال السياسي والوطني قبل عقد كاملة من اندلاع ثورة التحرير الجزائرية. انخرطت في صفوف «اتحاد النساء الجزائريات»، وهي في الثامنة عشر. ثم التحقت بصفوف الحزب الشيوعي الجزائري، بعد ذلك بأقل من عامين. ولعبت دوراً نضالياً بارزاً، إلى جانب رفيق دربها، القيادي الشيوعي البشير مكي، وإلى جانب الراحل إيميل شكرون، الذي غيبه الموت الشهر الماضي («الأخبار» 20/6/2018) وزوجته ألين لاريبار، خلال الإضراب التاريخي لعمال الميناء في وهران، عام 1951، لمنع شحن الأسلحة بحراً لحساب الجيوش الفرنسية المقاتلة في حرب «الهند الصينية» آنذاك.
شكّل ذلك الإضراب علامة فارقة في مسار النضال الوطني الجزائري ضد الاستعمار، إذ عجّلت هزيمة الجيوش الكولونيالية الفرنسية في «الهند الصينية»، واندحار جبروتها العسكري في معركة «ديان بيان فو»، في اندلاع ثورة التحرير الجزائرية. التحقت ليلى مكي بألوية «مقاتلي التحرير» التي شكلها الحزب الشيوعي الجزائري في منطقة وهران، للمشاركة في النضال المسلح ضد الاستعمار، تحت قيادة الزعيم اليساري بوعلام خالفة. في ربيع 1956، اعتُقلت وحُكم عليها بالنفي إلى فرنسا. وتزامن ذلك مع اتفاق ضم ألوية «مقاتلي التحرير» الشيوعية إلى «جيش التحرير الوطني»، فالتحقت ليلى مكي في منفاها الباريسي بصفوف «فيديرالية فرنسا» التابعة لـ«جبهة التحرير» الجزائرية. اعتُقل البشير مكي بدوره، وتعرّض لأشكال بشعة من التعذيب والتنكيل. ولعبت ليلى مكي دوراً بارزاً في فضح تلك الممارسات، من خلال تهريب ونشر شهادة زوجها عن التعذيب. وكانت تلك الشهادة التي نُشرت في صحيفة Témoignage Chrétien، في أيلول (سبتمبر) 1956، أول نص فضح بشائع التعذيب التي كانت تُمارس سراً في الجزائر. وتم ذلك قبل عامين كاملين من تهريب ونشر كتاب «السؤال» للمناضل الشيوعي هنري علاق، الذي أسقط تابو التعذيب نهائياً، إذ كان له وقع القنبلة لدى الرأي العام الفرنسي والدولي. ورغم المكانة الرمزية التي حظيت بها، من خلال انتدابها لقراءة بيان إعلان الاستقلال، إلا أن ليلى مكي لم تلبث أن اختلفت مع نظام الرئيس بن بلة، فعادت إلى المعارضة في صفوف «الحزب الشيوعي الجزائري»، ثم في «حزب الطليعة الاشتراكية»، الذي انبثق، عام 1965، عن «الشيوعي» الذي كان قد حُظر عام 1962. وإذا بها تعود لتعيش محنة الاضطهاد والتعذيب لاحقاً، حين اعتقل ابنها خلال حملة الملاحقات التي طاولت مناضلي «الطليعة الاشتراكية» عام 1968، على أيدي جلادي جهاز «الأمن العسكري» الذي شكله نظام العقيد بومدين لإحكام قبضته الحديدية على بلد المليون شهيد. مع مطلع السبيعينيات، تفرغت ليلى مكي للنضال النسائي والعمل الثقافي، إذ التحقت بفرقة كاتب ياسين المسرحية كمسؤولة عن العلاقات الخارجية، ولعبت دوراً مشهوداً في إنجاح الجولة الفنية لمسرحية «محمد خذ حقيبتك» (1973)، في أوساط المهاجرين في فرنسا. استقطب هذا العمل الطليعي أكثر من مليوني مشاهد غالبيتهم من العمال البسطاء المغتربين، الذين لم يكن سهلاً إقناعهم بارتياد المسارح، فكانت العروض تقام خصيصاً في المساكن الاجتماعية التي تأويهم.
على صعيد النشاطات النسائية، كانت ليلى مكي، على مدى ثلاثة عقود، في طليعة النضالات المطالبة بإلغاء «قانون الأسرة» الجزائري المجحف بحق النساء، والذي تم سنه عام 1986 لمداهنة المد الإسلاموي، وتم اقتباسه من «الشريعة الإسلامية»، بخلاف كل قوانين الجمهورية الجزائرية المستوحاة من التشريعات العلمانية الحديثة.
ورغم تقدمها في العمر، إلا أنها حافظت على صلابة مواقفها. عام 1993، عارضت قرار رفاقها بحل «حزب الطليعة الاشتراكية»، وأسهمت في إعادة تأسيس الحزب تحت مسمى «الحزب الجزائري الديموقراطي الاجتماعي». ثم خصصت سنواتها الأخيرة لدعم نشاطات جمعية «تجمع العمل الشبابي» في مسقط رأسها في وهران. وقد رثتها الجمعية في بيان حيّا فيها «امرأة شجاعة، ملتزمة وصامدة، كانت لديها ثقة كبيرة بالشباب الجزائري لرفع التحدي ومواصلة النضال السلمي من أجل بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية».