انطفأ فيليب روث (1933 ــ 2018) أوّل من أمس، جرّاء فشل في القلب في مانهاتن. بعد بضع سنوات على اعتزاله الكتابة وتخلّيه عن المقابلات العامّة، باستثناء لقاءات صحافية معدودة عبر البريد الإلكتروني، عاش الكاتب الأميركي الثمانيني أياماً هادئة ومنعزلة في منزله النيويوركي يشاهد البيسبول، ويقرأ، ويتلكأ على هاتف الـ«آيفون» الذي اقتناه أخيراً. ربّما قرّر أن يحيا تلك السنوات التي مرّت وهو غارق في الكتابة. يخصّص لها 365 يوماً، كما كان يصرّح خلال الأحاديث الصحافية، وكما لو أنّ هذه العادة خطفته تماماً. لهذا، ربّما حين كان يتهاوى الكتّاب أدبياً حالما يدخلون في العقد الخامس أو السادس من أعمارهم، بقي روث يجرّب صعوداً ليصل إلى أعلى المستويات الروائية، كما قال ريك جيكوسكي، رئيس لجنة تحكيم «جائزة مان بوكر الدولية» التي مُنحت لروث عام 2011 عن تجربته الشاملة. رفض روث التسميات الأدبية التي كانت تحاول حصر الكتاب بالتصنيفات العرقية والدينية كـ«الأدب الأميركي الأسود»، و«الأدب الأميركي اليهودي»، والتي تخدم برأيه «غايات سياسية». رغم الزاوية التي بقي منها يتهجّم على العائلات اليهودية، إلا أنّ رواياته الـ 24 هي جزء أساسي من الوعي الأدبي الأميركي في النصف الثاني من القرن العشرين. أميركا وتناقضاتها كانت تتقاطع مع تناقضاته الشخصية التي بها دمغ أبطاله. أميركا الأحلام والمُثُل، هي مرتع لهواجس روث القاتمة التي وثّق عبرها أبرز الفترات التاريخية الحديثة لبلاده مثل مرحلة الخمسينيات والحرب الكورية في «نقمة» (2008)، وحقبة الفاشية الأميركية خلال الأربعينيات في «خطة ضد أميركا» (2004). الهويات الفردية، والعائلة اليهودية، والجسد الرجولي، والأخلاق، والمُثُل الأميركية وخيانتها، خيّمت على معظم أعماله المستفزّة. منذ باكورته القصصية «وداعاً كولومبوس» (1959) التي ظهّر فيها الطبقة اليهوديّة المتوسّطة في أميركا، لفت روث الأنظار، فنال عنها «جائزة الكتاب الوطني» الأميركية. كان عليه أن ينتظر تسع سنوات ليصبح من الكتّاب النجوم، أي بعد صدور «شكوى بورتنوي» (1969) التي باعت أكثر من 400 ألف نسخة لدى صدورها، من دون أن تحميه من تلقي اتهامات «معاداة السامية»، و«اليهودي الكاره لذاته» بسبب نظرته الساخرة والعبثية إلى حياة اليهودي في أميركا. في هذا العمل، تناول عازفاً يهودياً شاباً، تسيطر عليه الشهوة، ومهووس بأمّه، يُطلع طبيبه النفسي على تفاصيل حميمة، مستخدماً لغة بذيئة. كما استطاعت الرواية أن تسجّل عدداً كبيراً من مشاهد الاستمناء. روايات روث خرائط للجسد الرجولي، تتفلّت فيها أحاديثه الجنسية من أي طوق لغوي قد يحرّف من معناها الصريح والتفصيلي. لم يهجس بضرورة إيجاد أسلوب كتابي يحفظ توقيعه. تنازل عن الإمساك بأسلوبه من وجهة نظره كراوٍ. تركه شفافاً تستميله بسهولة هواجس شخصياته، ودواخلها، ورغباتها، ومعتقداتها، ما منحه غنى وتداخلاً ثقافياً وتاريخياً يصعب تصنيفه. المسافة بين الواقع والخيال، تكاد تختفي في رواياته التي دشن فيها علاقة أكثر انخراطاً وتماسكاً بين الكاتب وأعماله. مع ناثان زكرمان في «حياتي كرجل» (1974)، البطل الأقرب إلى شخصية روث، واجه آفات الشهرة والأدب، ومواضيع الخيانات الزوجية والهوية اليهودية، والعشيقات اللواتي مررن في حياته وبادلنه الأذية. استمرّ في كشف المزيد من سيرته الذاتية والحياة الجنسية النشطة لرجل يهودي في ثلاثية زكرمان التي ضمّت «الكاتب الشبح» (1979)، و«زكرمان محرراً» (1981)، و«درس التشريح» (1983)، ليظهر مجدداً في «حياة معاكسة» (1986) التي يقضي فيها زكرمان بأزمة في القلب، وهو نفسه الذي تمكّن من روث أخيراً.كان روث يتمنّى أن يعيش حتى عام 2020. في كتاباته الأخيرة، منذ «الحيوان الميت» (2001)، بدأ المرض ينخر أجساد أبطال رواياته، والقلق من التقدّم في العمر. «الكَبَرْ ليس صراعاً، إنّه مجزرة»، يقول بطل روايته «كل الرجال» (2006)، فيما لازمته هذه الثيمات العالقة بين الاستسلام للعمر والتمرّد عليه في «شبح المخرج» (2007) أيضاً. ربّما كانت هذه طريقته للتفوّق على خيال الكهولة التي تنتصر وتفاجئ كل التوقعات. غاب روث عن الأضواء، وبقي اسمه واحداً من المرشّحين السنويين لجائزة «نوبل للآداب» من دون أن يحصل عليها. تجاهل «نوبل»، عوّضته جوائز أدبية أميركية مثل «بوليتزر» التي مُنحت له عن روايته «حكاية رعوية أميركية» (1997)، و«مان بوكر الدولية» (2011)، وثلاث جوائز «PEN/ فوكنر»، وثلاث جوائز «الكتاب الوطني لدائرة النقاد» الأميركية. واحد من التغييرات التي أجراها روث على حياته كان استدعاء الكاتب بليك بايلي لكتابة سيرته الذاتيّة الطويلة التي ستنشر عام 2022.