تنبّأ الكاتب الأميركي الراحل ديفيد فوستر والاس عام 1990 بمستقبل للتمرّد الفني يفتقر إلى أي مقوّمات للتمرّد بقدر ما يأتي كمجاهرة بالعودة إلى الكلاسيكية العاطفية. تجرّأ متمردو ما بعد الحداثة من الفنانين في السابق على اللعن والشتم وإثارة الاشمئزاز والمخاطرة بتلقي «اتهامات» الاشتراكية الشيوعية والأناركية والعدمية.
«عازف الغيتار» للفنان الأميركي تشارلز ويلبرت وايت (1959)

كل هذا السخط المقرون بالسخرية، فقد معناه التحرري بحسب والاس ليصير قيداً بذاته. لذلك، على المتمردين الجدد والطليعيين أن يكونوا ضد التمرد. أن يكونوا فنانين مستعدين للتصدي لاتهامات المشاعر الفائضة والميلودراما والمبالغة والرقة والعبارة التي سيتدافع المتهكمون الموهوبون على رميها في وجههم: «كم هذا مبتذل!». مستقبل والاس الطليعي، هو ماضٍ أيضاً، ماضي أغنيات الحب (الجنسي والعذري) التي كانت دائماً ذلك الزائر المتمرّد والمطرود من المؤسسات الدينية والأبوية. الناقد الموسيقي الأميركي تيد جيويا خصص كتابه «أغنيات الحب: التاريخ المخبأ» قبل سنوات لأغنيات الحب الأولى التي طردت بدورها من التاريخ الرسمي الغربي تحديداً. لم يكن هذا النوع من التعبير يوماً مرضياً عنه من قبل السلطة، ولا قدرة لأبناء القصور على القيام به. بل لم يجرؤ على الخروج إلا من أفواه المهمشين من العبيد والنساء، والغجر، والبوهيميين، والفقراء والعاهرات، وفق ما يؤكد جيويا الذي ينبش التجارب المنسيّة. يتفادى جيويا إعطاء تعريف مباشر لأغاني الحب، فذلك سيفتح أبواباً كثيرة على الموضوع الذي يحوي بدوره تعريفات متعددة كالحب نفسه، والإيروتيكية، والزواج. كذلك إن معظم الأغنيات التي كتبت تاريخياً هي أغنيات حب تأتي كدعوة للمعشوق، تعلن التخلي عنه، تتغنى بجسده وجماله، تتذكّره وتشتمه كادعاء أخير للنسيان.
في كتابه «أصل الإنسان» (1871)، يخلص العالم البريطاني تشارلز داروين إلى أن الموسيقى لم تكن يوماً منفصلة عن الرغبة والسعي إلى استمالة المعشوق إلى العلاقة الجنسية، بدءاً من أغنيات العصافير والتعبيرات الصوتية الأولى للبشر. جاءت دراسات لاحقة لتنفي هذه النظرية، مؤكدة أن الموسيقى في القبائل كانت عملاً جماعياً فحسب، لكن الدراسات الحديثة لا تتوقّف عن تأكيد ما قاله داروين قبل أكثر من قرن، أي دور الموسيقى في التقارب الجنسي والعاطفي. أما بحث جيويا في دور الموسيقى في العلاقات العاطفية، وتوثيقه لأغنية الحب عبر التاريخ، فيأتي محاولةً لملء الفجوات الكبيرة التي تستثني المنبت الأول لهذه الأغنية التي جاءت من أفريقيا والشرق.

إنخيدوانا وسافو
تبعثرت قصائد الشاعرة الإغريقية سافو. ما بقي من كتبها التسعة وصوتها الذي كان يصدح تغنياً بالفتيات على جزيرة ليسبوس اليونانية، هو قصائد قليلة نجت من محارق الكنيسة والاضطهاد الذي عانته. عام 1900، كشف عن سطور شعرية جديدة من تركة سافو. عثر المنقبون في مصر على أوراق بردى فيها تلك الروائع الإغريقية التي خرجت بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد.
أغنيات الحب الأولى خرجت من أفواه العبيد والغجر والبوهيميين وبائعات الهوى

رغم تنوّع مواضيعها وثيماتها، بقي الحب عند سافو الملهم الأوّل، لكتابة القصائد وغنائها على آلة وترية اخترعتها بنفسها وكانت ترافقها دائماً. غير أن الغناء، وقصائد الحب، هما اثنتان من المهارات التي كانت تعلّمها سافو لتلميذاتها في المدرسة، إلى جانب تعليمهن فنون التزين والأناقة والإغراء. وإلى تلميذاتها، أهدت وكتبت معظم قصائدها العاشقة، حيث كانت من أولى الشاعرات المثليات. يتفق التاريخ الغربي، على اعتبار الشاعرة الإغريقية سافو شاعرةَ الحب الأولى. لكن جيويا يعود 1500 سنة إلى الوراء، وتحديداً إلى بلاد الرافدين. إلى إنخيدوانا أميرة الإمبراطورية الأكدية، ابنة الإمبراطور سرجون الأكدي. بقيت أشعار إنخيدوانا مهملة حتى عام 1920، أي حين عثر المنقبون والأركيولوجيون على كتابات لها بالخط المسماري، من بينها 3 قصائد لإلهة القمر نانا، و3 لإنانا، إلى جانب 42 ترتيلة للمعبد السومري. كأي كاهنة أخرى، كانت كاهنة الإلهة نانا تقضي وقتها في المعبد، تعزف الموسيقى، وتدرّس الكتابة للنساء. قصائدها تُعَدّ من أولى القصائد الجنسية، واختلط فيها الحب بنوع من الغزل الإلهي. هكذا شهدت مدينة أور حينها، الاستعمال الأول لضمير المتكلّم في قصائدها، للتعبير بصراحة عن عواطفها ومشاعرها ورغباتها الجنسية التي رسمت ملامح شخصية أنثوية متحرّرة.

الموشحات والتروبادور
في مؤلّفه «دور العرب في تطوّر الشعر الأوروبي» (2013)، كشف الناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة عن تأثيرات الموشحات العربية بالشعر البلاطي الذي كتبه شعراء التروبادور في فرنسا وإسبانيا. معظم الكتب الغربية التي توثّق لشعر التروبادور العاطفي، لا تكاد تأتي على ذكر واحد للموشحات الأندلسية.

«امرأة تعزف على آلة السيتار» لفنان مجهول (زيت على كانفاس ــ 172.1 × 83.8 سنتم ــ 1830)

من جهته، يشدّد جيويا على دور القيان، أي الجواري اللواتي كن يؤدين أغنيات عاطفية في القصور الأندلسية، على شعر التروبادور في الأقاليم المسيحية القريبة من الإمارات العربية الأندلسية. في منتصف القرن الثاني عشر، شكّلت أغاني التروبادور العاطفية صفعة للسلطة والكنيسة التي اعتبرت هذه الأغنيات هرطقة، بسبب نظرتها إلى المرأة، وأنواع الحب الجنسية والحسية المخالفة لمؤسسات الزواج والدين. برأي جيويا، لم يكن شعراء التروبادور ليظهروا لو لم يتناهَ إلى مسامعهم الموشّح، وتحديداً الزجل والخرجة التي أثّرت مباشرةً باللغة التي كتبت فيها أشعارهم بلغة عامية بعيدة عن اللاتينية. هكذا فإن الموشّحات التي أسهمت في تجديد الشعر العربي خلال العصر الأندلسي، برفقة الموسيقى والألحان والغناء، تركت أثرها في الشعر الأوروبي والغربي بأكمله لاحقاً، من دانتي إلى إزرا باوند، كما يؤكد جيويا.

البلوز والروك أند رول
تستمر مصادرة حقوق أغنيات الحب عبر الوقت، وطمس تاريخها الحقيقي. في الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت الميسيسبي أفقر ولايات أميركا. كان العبيد الأفارقة يقضون أوقاتهم بعد العمل في عزف وغناء ما نقلوه معهم من أفريقيا الغربية على متن البواخر. بالإضافة إلى أغنيات العمل التي انتشرت في حقول القطن، كانت الأغنيات العاطفية والجنسية، بكلماتها البذيئة والواقعية تتوالى على مسامع الناس هناك. أغنيات سمعناها من المغنيات السُّود مثل بيغ ماما ثورنتون وبيسي سميث التي أشهرت ميولها المثلية، والموسيقيين الآخرين كبلايند ليمون جيفرسون، وروبرت جونسون الذي رحل عن 27 عاماً. حين مات عازف الغيتار الشاب وصاحب أغنية Love In Veins عام 1938، كان غارقاً في الفقر. الإهمال الذي أغرق سيرة جونسون استحال شهرة مدوّية لشاب آخر من الميسيسبي هو إلفيس بريسلي الذي تشكّلت ذائقته الموسيقية من مغني البلوز المهمشين. بان ذلك بنحو أساسي في بدايات بريسلي الذي سجّل خلالها أغنيات مثل Hound Dog لبيغ ماما ثورنتون، وshake Rattle and Roll لبيغ جو تيرنر. وحين وصلت عدوى الأغنيات الإيروتيكية السوداء إلى المؤلفين البيض، راح هؤلاء ينسبونها، بعد خروجها إلى العلن، إلى المغنين والفنانين السود، في نوع من التخلي والخجل منها، كما في Frankie and Jonny التي ظهرت عام 1904 للمرّة الأولى وغناها فنان البلوز سام كوك، رغم أن مؤلفها هو الملحن الأبيض هيوي كانون.
لم يكن شعراء التروبادور ليظهروا لو لم يتناهَ إلى مسامعهم الموشّح


تأثيرات البلوز العاطفية طاردت أهم فرق الروك بداية الخمسينيات والستينيات مثل «الرولينغ ستونز» و«البيتلز» اللتين سجلتا في بداياتهما أغنيات بلوز لتشَك بيري.
كذلك، قدّمت فرقة «ذي دورز» تسجيلاً لأغنية البلوز The Back Door Man للأفريقي ويلي ديكسون الذي كان قد قال يوماً إن «البلوز هي الجذور، وباقي الموسيقى الأميركية هي الفاكهة». الفاكهة التي ولدت أغنية البوب العاطفية الأميركية بمجملها من ضمنها الأغنيات الفجّة والإباحية لمادونا ومايلي سايرس.