تونس | منذ أيام، أعلنت «مؤسسة رامبورغ للرعاية الثقافية» في تونس عن قائمة المترشحين لجوائزها في مختلف المجالات الثقافية من سينما وفنون تشكيلية ومسرح وأدب. من بين هؤلاء نجد ترجمة قام بها طالب الحقوق ضياء بوسالمي لرواية «الغريب» لألبير كامو... إلى اللغة الدّارجة (العامية التونسية)، وكان قد نشر ثلثيها على الانترنت في انتظار صدور نسخة ورقية كاملة. وقبل ذلك، نشرت «دار الجنوب» التونسية ترجمة قام بها مجد مستورة (الحائز جائزة الدب الفضي لأفضل ممثل في «مهرجان برلين السينمائي» عام 2016) لنص الفيلسوف الفرنسي فيليب دوجاردان La Chose publique. وكان الفنان قد اقتبس بدوره النص إلى اللغة العامية في طبعة باللغتين. كما كان متوقعاً، علت أصوات تستنكر هذه المبادرة لما رأت فيها من «خطر» على اللغة والهوية العربيتين. من دون أن نتجاهل هذا الجانب الجدلي، أردنا الخوض في ميزات وحدود هذه التجربة، وما يطرحه النشر بالعامية التونسية ــ أو غيرها من اللهجات العربية- من إشكاليات لغوية وثقافية للكاتب كما للمتلقي. مسألة الازدواج اللغوي تشمل جميع بلدان العالم العربي، حيث يتعايش يومياً اللسان الفصيح المكتوب مع «الدارجة» المستعملة في الخطاب الشفوي. هذا البعد الشفوي للعامية، كان نقطة انطلاق عمل الترجمة الذي يهمنا: فالنص الفرنسي اقتبس في مشهد مسرحي، ثم كانت أول محاولة لتقديم جزء منه مترجماً إلى العامية في الشارع الرئيسي للعاصمة التونسية. وهذا النوع من الإلقاء مألوف بالنسبة إلى مجد مستورة الذي كان قد أطلق مع أصدقاء له في 2011 مبادرة «كلام شارع». يومها، ألقوا نصوصاً وقصائد بالعامية من تأليفهم. نصّ «الشأن العام هو اللّي يلمّنا» (أي «ما يجمعنا هو الشأن العام») ليست المحاولة الأولى في تونس لترجمة نص فلسفي إلى الدارجة التونسية. فالناشط والمدون عزيز عمامي كان قد أنجز مبادرات مماثلة مع نصوص الفلاسفة الإغريق، أو غرامشي وهرمان هاسه وبيسوا. انتشرت ترجماته على الشبكة، مستفيدة من هذه المساحة المجانية التي تمنح فرصة التحايل على منظومة المعرفة الرسمية. موقف عزيز عمامي من اللجوء إلى الدارجة، ليس أيديولوجيّا بمعنى الانتماء الثقافي أو السياسي (أو الانسلاخ)، بل لأنه يرى فيها «طريقة ناجعة لإسقاط الأفكار والفلسفة من السماء الأكاديمية المكذوبة لجعلها تمشي على الأرض، بين البشر». وفي سياق غير بعيد، نجد بعض المقالات التحليلية على الموقع الصحافي التونسي «نواة» تكتب كذلك بالعامية التونسية.
عاد هذا الجدل ليحتل المشهد الثقافي منذ انتفاضة2011

بيد أن المرور بهذه المبادرات من المساحة الافتراضية المحملة بشتى التجارب الهامشية إلى السند المطبوع، وبمعية إحدى أهم دور النشر التونسية، يمنح النص بعداً رسمياً، أضاف إلى شرعيته التقديم الذي يمضيه الروائي ورئيس جامعة الآداب والعلوم الإنسانية في تونس شكري المبخوت. في هذا التقديم، يشير الأستاذ إلى أن النص الأصلي «لم يُكتب بإحدى لهجات اللسان الفرنسي بل بالفصيح منه». وهنا نتساءل عن المقصود بعبارة «الفصيح منه». إلى جانب اللهجات المحلية التي تعدها فرنسا أو المستوى اللغوي (registre de langue) الذي يختاره أو يرثه المتكلم بحسب سياق الحوار أو هوية مخاطبه أو محيطه الاجتماعي، يبقى من الوارد جداً أن يتحدث فرنسي باللغة «الفصحى» التي تلقن له في المدارس، على خلاف الدارجة التونسية التي نتعلم قواعدها حصرياً بالممارسة اليومية. فالفرنسيون عموماً يتعلمون القواعد الكتابية للغة التي يتحدثونها يومياً ولا يعيشون ازدواجية اللغة (bilinguisme) التي تعرفها مجتمعاتنا العربية. ومن ثمّة، فإن طباعة النص تطرح أولاً إشكالية إسناد رسم معين للغة شفوية. مثلاً، لمَ يختر المترجم كتابة أفعال المضارع «يعملوا» أو «يصنعوا» (أي يعملون ويصنعون) بإضافة ألف المد عوض الاكتفاء بإسقاط النون، أي من خلال رسم يذكّر بصيغة المضارع المجزوم في الفصحى؟ ولمَ إضافة تاء التأنيث في آخر كلمة «بطحة» عوض «بطحا» (وهي كلمة عربية) أو «شنوّة» عوض «شنوّا» (أي ماذا)، والحال أن لا تاء تنطق في الكلمتين باللهجة التونسية؟ فهو من خلال هذه الكتابة، يقترح رسماً نهائياً للعامية، ومن الطريف هنا ملاحظة التكييف الذي وُرث عن الفصحى وترسّب في كتابته، بمجرد استعماله في نسخ العامية حروفاً عربية.
كذلك، فمن تحديات الترجمة للعامية افتقارها لمفاهيم سياسية وعلمية، ما يحتّم على المترجم اللجوء إلى المعجم الفصيح. وفي هذا السياق، يذكّر شكري المبخوت بما قام به أدباء تونسيون كعلي الدوعاجي وكذلك كتّاب المسرح التونسي الحديث من اشتغال على العامية، مشيراً إلى أن البعد الشعبي الواسع الذي اتسمت به هذه النصوص بفضل لغة كتابتها، لم يحرمها من بعد جمالي يجب على المترجم إلى العامية، كما إلى أي لغة، الاشتغال عليه. وهنا وجب الاعتراف بأن أكثر الفقرات التي نجح مجد مستورة في ترجمتها هي تلك التي تحوي سرداً أو خطاباً، أكثر منها الفقرات النظرية التي قد تكون، في بعض الأحيان، غامضة لولا وجود النص الفرنسي في الصفحة المقابلة. من جهة أخرى، تعمد المترجم اللّجوء إلى بعض الكلمات الفرنسية غير المعرّبة، أي ما تستعيره العامية التونسية اليوم من كلمات فرنسية في ممارستها اليومية. اختيار عابه عليه، برفق، شكري المبخوت، لوجود تعابير في العامية تؤدي المعنى نفسه، لكنه يطرح في رأينا هذا السؤال: أي لغة عامية نختار للترجمة؟ فالاختلاف المحلي أو الطبقي أو العمري ينعكس في استعمالنا للعامية، إذ لا وجود لعامية تونسية مجرّدة. وإن كان تفضيل استعمال عن آخر في الأعمال الروائية يُوظّف بحسب مواصفات المكان أو الزمان أو الشخصيات (مثلاً، الكاتب التونسي البشير خريّف يستعمل لهجة مسقط رأسه لكتابة حوارات روايته «الدقلة في عراجينها» التي تدور أحداثها في الجنوب الغربي للبلاد)، فإن الوارد أن تكون لغة النصوص الفلسفية علميّة مقنّنة، وإن كانت سهلة الفهم، لا أن تنبع عن اختيار شخصي أو اعتباطي. ومن هنا، فإن العامية التي ترجم إليها نص دوجاردان هي بالأساس عاميّة العاصمة ومدن الشمال الشرقي لتونس، أي أن الترجمة، على خلاف الفصحى، تكون دائماً للغة عاميّة ما، إذ لا وجود لعاميّة «رسميّة». وفي هذا السياق، يقول ضياء بوسالمي إنّه اختار ترجمة رواية «الغريب» لكامو إلى عامية العاصمة، على رغم كونه أصيل مدينة بوسالم في الشمال الغربي التونسي، فهي العامية التي «يفهمها الجميع تقريباً، كونها المهيمنة على الخطاب الإعلامي والإنتاجات التلفزيونية». وهنا تذكير بأن اللغة ليست فقط أداة خطاب، بل كذلك أداة ثقافية وسياسية لأنها تفرض طريقة كلام ما – ومن ثمة طريقة تفكير- وتربط، تاريخياً، الخطاب بمركز الحكم والثقل السياسي، على حساب رقع جغرافية أخرى.
من هنا نأتي إلى فكرة التعميم التي تشكل أحد أهم الحوافز في اللجوء إلى الترجمة بالعامية، وتطرح، حتماً، مسألة اختيار النص الأصلي. فأن يترجم النص للعامية التونسية من دون الفصحى، يعني أن الهدف منه ليس فقط السماح لمن لا يجيد أو لا يحبذ القراءة بالفرنسية بمطالعة نصوصها، بل إن الخيار يستمد شرعيته من بعد تثقيفي أو نفعي لنص تتجاوز أهميته بيئة الكاتب الأولى. لكن الترجمة الوفية لا تكفي أحياناً في نص «الشأن العام»، لارتباط بعض المفاهيم بالأصول اللاتينية للغة الفرنسية، والتي تمنع المترجم من الاستقلال تماماً عن لغة الكتابة الأولى والعودة إلى المفاهيم الفرنسية، بل وإدخالها في النص التونسي.
أخيراً، لا يمكن أن نتجاهل الإشكاليات وحساسيات الهوية التي يطرحها خيار كهذا. فتونس، منذ انتفاضة 2011، تعرف جدلاً على الساحة بين أنصار من ينتسبون إلى هوية تونسية بحتة ترفض الاعتراف باللغة العربية الفصحى كلغة رسمية، في ما يشبه المزيج بين الوطنية المتطرفة ونبذ لما تبقى من ميراث قومي عربي، اختلط في فكر البعض بخطاب عنصري تجاه بلدان الخليج («لسنا عرباً مثلهم، نحن تونسيون»)، وبين من يخشون على هويتهم وانتمائهم العربي، وعلى مكانة اللغة العربية الفصحى اليوم. وإن كان الخوض في خطاب الفريق الأول عقيماً، وجب التنويه بأن الخوف على الفصحى من مبادرات مماثلة، يعني أننا نختزلها في استخدام منفعي، ضاربين عرض الحائط بعدها الثقافي والجمالي، بل كذلك تاريخها الأدبي الذي يمتد على قرون، كأن الترجمة إلى العامية اليوم ستكرس العزوف عن قراءة ما يكتب بالفصحى. هذا من دون أن ننسى أن العربية الفصحى تحظى ببعد سياسي قيّم، ويضمن، شئنا أم أبينا، حداً من الارتباط الأدنى مع بقية الدول العربية، ليس فقط كقاسم لغوي مشترك امتزج بألوان محلية، بل كذلك كلغة تواصل فكري، تمكن مثلاً صحافية تونسية من الكتابة في جريدة لبنانية يطالعها قارئ عراقي.
في جميع الأحوال، تبقى هذه التجارب كغيرها من التي بنيت على إدخال الدارجة التونسية في دائرة الثقافة والصحافة والفكر مبادرة مهمة، قد تؤخذ بخاصة كأرضية تفكير لعلاقة الشعوب العربية بلغتها اليومية وازدواجيتها. إذ ربّما كان الأجدر بعالمنا العربي الخروج من فكر الصراع إلى فكر التعايش، ومن الخطاب الأيديولوجي وخطاب الهوية المبهم إلى الواقع، للارتقاء إلى استعمال العامية كلغة خلق وإبداع وكذلك تثقيف وتعميم، مع الوعي التام بحظنا في العيش في كنف هذه الازدواجية وفي قدرتنا على تمرّس لغة الضّاد، بجمالها وتشعبها.