المكتبة في عرف الروائي والباحث والناقد الراحل، كانت وطنه في خضم الترحالات الاختيارية والقسرية بدءاً من عمَّان وبغداد والقاهرة ودمشق فبلغراد وبيروت وباريس... هذا ما جعلها مثالاً مميزاً للبحث، دفع سامي رستم، عمر نقولا، وكنان درويش العاملين في «فهرس الممارسات النشرية» إلى إصدار كتاب «عندما سُرِقَت المكتبة ـــ في أرشيف المكتبة المنزلية للروائي عبد الرحمن منيف» (فهرس الممارسات النَّشريَة ـــ توزيع «دار التنوير» في بيروت ـــ 2017). عمل يضيء على التحوُّلات الجذرية التي طرأت على النشر في العالم العربي، ومدى ارتباطه كممارسة بالتغيرات السياسية والأيديولوجيات المتصارعة.هل كان للروائي والباحث والناقد عبد الرحمن منيف (1933-2004) أن يكتب «مدن الملح» بأجزائها الخمسة لولا غنى مكتبته الشخصية بالكثير من الكتب الوثائق والحوليات والموسوعات والدوريات والمذكرات والسير الذاتية؟ وهل كان بإمكانه تحمُّل «سباق المسافات الطويلة» كأنموذج مثالي لأدب ما بعد الكولونيالية لولا قراءاته المديدة والذخيرة التي أمدَّته بها مكتبة جمعها على مدى أكثر من نصف قرن؟ وما سبيله إلى رسم الملامح السياسية والاجتماعية لـ «أرض السواد» في القرن التاسع عشر، غير الغوص والتعمُّق بما جادت عليه مكتبته التي تناهز العشرة آلاف كتاب؟ وما هي وسيلته للتجوال مع جبرا إبراهيم جبرا في «عالم بلا خرائط»، سوى انخراطه ومعرفته الدقيقة لمحتويات تلك المكتبة التي ارتحلت معه وارتحل معها، وتبادلا العطاء باستمرار، تُغْنيه فيُغْنيها؟
المكتبة في عرف منيف ليست مجرد كتب على رفوف، بل هي وطن بديل في الترحالات الاختيارية والقسرية، ابتداءً من عمَّان إلى بغداد والقاهرة ودمشق فبلغراد وبيروت وباريس... وهي سبيله لاستكناه المعرفة بأقصى صلاتها بالمجتمع من «شرق المتوسط» بمعارضاته السياسية العديدة، وحتى طيبة «النهايات».

لعل خسارة مكتبته الأولى التي تركها بعهدة عائلته في عمَّان، مغادراً إلى بغداد لدراسة الحقوق، ظلَّت جُرحاً غائراً في ذاكرته، لينقل بعدها ما يجمعه من كتب إلى منزله في دمشق، كمستقر نهائي يودِع فيه كنوزه من المنشورات التي تعرَّضت منذ ما يُقارب ثلاثة أعوام للسطو والتخريب على يد أحد أصدقائه بعدما لجأ إلى بيت منيف بسبب ظروف الحرب على سوريا (الاخبار 23/3/2015)، إلى درجة جعلت سعاد قوادري رفيقة درب صاحب «لوعة الغياب» منذ الستينيات تُصاب بما أسمته «الكتاب فوبيا». إذ تنتابها حالة من الرعب أثناء الاقتراب من أي منشور داخل تلك المكتبة الموزعة في أرجاء المنزل بالكامل، بسبب الدمار الذي لحق بالكتب، لا سيما أنها شريكة حياة قادرة على تتبُّع علاقة منيف بالكتاب. وهذا ما دوَّنته في «سيرة مكتبة» مبتدئةً بحياته في عمَّان وتعرُّفه إلى مصادر الصحف والمجلات والكتب. سيصبح بعدها صديقاً لصاحب مكتبة بسيطة هناك، يمدُّه بكل جديد ومهم على صعيد النشر، مروراً بشارع المتنبي في بغداد ومكتباته التي صارت حينها المزود الرئيس لمكتبته، إلى القاهرة ودورياتها من مجلة «الرسالة» و«الثقافة» و«الطليعة» و«الفكر» و«سلسلة أعلام السياسة»، إضافة إلى كتب روَّاد النهضة، والكتب الشهرية مثل «كتابي» و«الهلال»، إلى مرحلة التخصص في مجال اقتصاديات النفط والالتحاق بجامعة بلغراد في يوغسلافيا حيث التغير النوعي والغرق في الماركسيات، وكتب الحربين العالميتين، والكثير من المذكرات والسير الذاتية، وليس انتهاءً ببيروت ودمشق وباريس. هذا فضلاً عن الإهداءات التي أغنت مكتبة منيف سواء من «دار العودة»، أو من بعض الشخصيات السياسية العراقية، أو من جابر الوهيبي السياسي العُماني. كل تلك الكتب انتقلت إلى منزله الدمشقي، لتصبح مكتبة غنية وجامعة لكل الحقب التي عاشها عبد الرحمن منيف بتغيراتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وهو ما جعلها مثالاً مميزاً للبحث، دفع كل من سامي رستم، عمر نقولا، وكنان درويش العاملين في «فهرس الممارسات النشرية» (تأسس في برلين عام 2015 كدار وفضاء يُعنى بواقع النشر ورصد أشكاله وخلق ثقافة جديدة للتعامل معه)، إلى إصدار كتاب «عندما سُرِقَت المكتبة» (فهرس الممارسات النَّشريَة ـــ توزيع «دار التنوير» في بيروت ـــ 2017) بعنوان فرعي «في أرشيف المكتبة المنزلية للروائي عبد الرحمن منيف». على اعتبار أن ذاك الأرشيف فضاء ثقافي مُحرِّض على التفكير والإنتاج والنقد، والكشف عن التحوُّلات الجذرية التي طرأت على ممارسة النشر في شرق المتوسط وشمال إفريقيا من زوال دور نشر وظهور أخرى، إلى تسلم هيئات حكومية مهمة النشر وإنتاج المعرفة، إضافة إلى إيضاح مدى ارتباط النشر كممارسة بالتغيرات السياسية والأيديولوجيات، وأهمية «أرشفة النشر» وما تُقدِّم قراءتها من احتمالات لفهم الماضي والحاضر.

دفن الكتب
إلى جانب شهادة قوادري في حياة زوجها وكتبه وكتاباته، يتضمن الكتاب نصاً للكاتب والصحافي والناشر عامر بدر حسون المتخصص في أرشفة المجلات والصحف العربية. هنا، يتحدث عن مكتباته التي جمعها في ترحاله بين أكثر من بلد واضطراره للتخلي عنها، مبيناً أنه كان كمنفي يبحث عن وطنه في الكتب، فـ«عندما أُعدِّد الكتب التي قرأتها، كأنني أُحدِّد حدود وطني وأرسم صورته وأستعيد فيه ذكرياتي». مع ذلك، هو لا ينسى كيف انتهت مكتبته الأولى يوم هرب من العراق، حيث اضطر أهله لدفن بعض الكتب في الأرض بعد لفِّها بأكياس النايلون، بغية إخفاء أي أثر لها عن عيون الأمن. فكل كتاب قد يتحول بنظر شرطي الأمن السياسي، إلى دليل أو قرينة جرمية. كما يستذكر كيف تحوَّلت الطاولات في غرف الفنادق إلى مكتبات شخصية له، لا سيما أن وجود مكتبة يمنحه الإحساس بالاستقرار. وعند سفره إلى تشيكوسلوفاكيا، كان يحزن لأن «لا حقيبة لمسافر تتسع لمكتبة». لكن بعد استقراره في بيروت، ورغم سكنه في غرفة ضمن شقة في «جمهورية الفاكهاني» الآمنة بالنسبة إلى العراقيين خلال الحرب الأهلية، إلا أنه كان يشعر بالاستقرار النفسي لأن بيروت برأيه «مدينة مبنية من كتب لا من حجارة»، وفيها لن يحزن بسبب ترك مكتبته لساكن الغرفة الجديد. كما ترك له الساكن القديم بندقية كلاشينكوف كأنها شيء من الأثاث. وكي يتخلص من أسئلة شرطة المطار عن الكتب التي يصطحبها معه في الحقيبة، ادعى أنه تاجر كتب، لكن هذا الأمر تحقَّق، إذ بات فعلاً يشتري مكتبات كاملة بغية الحصول على مبتغاه من المجلات والصحف القديمة التي وصل عددها في مكتبه إلى ثلاثين ألف مجلة، الأحدث بينها يعود تاريخها إلى نصف قرن مضى، فضلاً عن الكتب النادرة والمخطوطات النفيسة التي كان مشتروها يخرجونها من سوريا بالحقيبة الدبلوماسية هرباً من التفتيش الحكومي.

أطلال مكتبة
المكتبة العربية كمخزن للإيديولوجيات المتصارعة وفضاء محرض على التفكير والنقد، يتناولها الكتاب من خلال تفريغ مقابلة إذاعية بُثَّت على إذاعة «البرنامج العام» المصرية أجرتها الإعلامية نادية صالح في برنامجها «زيارة لمكتبة فلان» مع الكاتب والروائي يحيى حقي تحت عنوان «المكتبة التي كانت». تعالج هذه الحلقة أطلال المكتبة التي تبرَّع بها حقي لمكتبة جامعة المنيا، لتُصبح رفوفها ــ حسب تعبيره ــ كشخص يفتح فاهه فتراه خالياً من الأسنان. لكنه في الحقيقة كان يمتلك أسناناً متينة وناصعة، واصفاً القراءة بأهم وسائل الاتصال في العالم، مُبيِّناً بأنه «يُقال فلان نظره ضعيف لأنه يقرأ كثيراً. لا، العكس هو الصحيح فهو يقرأ كثيراً لأن نظره ضعيف».
يرى فرانك ميرمييه أن وضع النشر يعكس التنافس الأيديولوجي في المنطقة العربية

وبالأسلوبية ذاتها يؤكد «عندما تنفض الغبار عن كتاب، لست أنت من ينفض ذاك الغبار، وإنما هو من ينفض عنك الغبار»، وغير ذلك من الموضوعات التي تطرَّق إليها البرنامج الإذاعي كإنتاج المعرفة والثقافة وعلاقة ذلك بالتاريخ والحاضر السياسي للمنطقة العربية. وهو ما كتب عنه الأنثروبولوجي والباحث في علم المجتمعات الحضرية والإنتاج الثقافي العربي فرانك ميرمييه، موضحاً أن «وضع النشر يعكس التنافس الأيديولوجي القائم في المنطقة العربية، التنافس العربي- العربي من جهة، وبين القطبين السابقين الاتحاد السوفياتي وأميركا من جهة أخرى. ما دفعهما إلى تمويل أعمال الترجمة. وهكذا أضحى قطاع النشر استراتيجياً، فسيطرت عليه الدولة في بلدان عربية عدة، ليتيح التدخل المحدود جداً للدولة اللبنانية في المجال الثقافي، وهو سلوك معاكس لسلوك بقية الدول العربية، بروز فضاء عربي عام بالوكالة في بيروت، وحفَّز لإنشاء كوكبة من دور النشر. ما ضاعف التوهج الثقافي للعاصمة اللبنانية التي صارت مختبراً إيديولوجياً وأدبياً حقيقياً بسبب حرية التعبير والنشر التي لا مثيل لها في المنطقة، لا سيما في ظل تعددية المجتمع المحلي فيها على الصعيد اللغوي وأيضاً على الصعيد الديني».

مناطق ثقافة حرة
أما في السنوات الأخيرة، فيرى ميرمييه تبوُّؤ بعض دول الخليج العربي دوراً في الترويج للثقافة العربية وللترجمة كظاهرة بارزة في عالم النشر، لا سيما من خلال إنشاء جوائز أدبية وإطلاق مشاريع كبيرة للترجمة، ضمن محاولة لتكريس دور جديد بدأت بعض دول الخليج تلعبه منذ العقد الأول من القرن الحالي، بغض النَّظر عن الممارسات الرقابية التي تختلف من دولة لأخرى، والمعايير التي تترك في بعض الأحيان ما يُشبه «مناطق ثقافية حرة» في حيز الإنتاج الثقافي بالالتفاف على الحدود والعوائق التي تفرضها الرقابات المحلية. ومثال ذلك البحرين بالنسبة لدول الخليج، ولبنان بالنسبة لسوريا والعراق... يؤكد ميرمييه أن «الحروب الأخيرة في المنطقة العربية أسهمت بشكل كبير في تغيير خارطة النشر بعيداً عن عاصمتي الكتاب بيروت والقاهرة، حيث عرفت مكتبات الأرصفة مثلاً ازدهاراً جديداً في اليمن والعراق وسوريا نتيجة بيع أو تبعثر محتويات المكتبات الخاصة. أضف إلى ذلك ظهور فاعلين جدد في عالم النشر كإحدى نتائج الغليان الراهن في سياق تجلي حاجة ملحة للشهادة على المتغيرات العميقة، لتسجيلها وتدوينها». لكن تبقى الرقابة أبرز ما تعانيه المنشورة، بحسب الناشر والمدير السابق لـ «المركز الثقافي العربي» حسن ياغي، إذ ما زال التعامل مع الكتب يتم كأنها مواد خطرة يجب حماية المجتمع منها، إضافة إلى مشكلة قرصنة الحقوق التي تتم من دون حسيب ولا رقيب مما يسبب خسائر فادحة للناشرين. أما أزمة التوزيع، فهي قديمة حديثة ولا توجد حتى الآن شركة توزيع واحدة على مستوى الوطن العربي.
القراءة كما يراها عبد الرحمن منيف حالة جادة من التيقظ والتعلم والمعرفة، وهو ما حققه معدُّو كتاب «عندما سُرِقت المكتبة» الذي ضمَّنوه توثيقاً أرشيفياً ممنهجاً لمكتبة صاحب «الآن.. هنا»، ومجموعة كبيرة من الصور، مؤكدين أن المنشورة بشكل عام هي «منصة لكتابة تاريخ ثقافي جديد للمنطقة» و«أداة هامة لتحريك اتجاهات الأفكار بما تقدمه للقارئ من قدرة على امتلاك الحاضر عن طريق حفظ وإعادة تركيب حكايات غير منتهية للماضي مليئة بالتفاصيل والدلالات».