من غير السهل الحصول على تمويل لأفلام كهذه في هوليوود اليوم. «ثلاث لوحات إعلانيّة خارج إيبنغ، ميسوري» Three Billboards Outside Ebbing, Missouri ليس بلوكباستر عن بطل خارق، أو كارثة مدمّرة، أو غزو فضائي، أو سواها من خلطات البوكس أوفيس المفضّلة. الاستوديوهات لم تعد تخاطر كثيراً، وسط تراجع نسبي في عدد روّاد الصالات الأميركيّة، لحساب منصّات مثل «نتفليكس» ومتاجر سينما المنزل المدفوعة.
ولكن من حسن الحظ أنّ هامش السينما المغايرة ليس معدوماً تماماً، بوجود صنّاع مثل مارتن ماكدونا (1970)، قادر على افتكاك 12 مليون دولار لإنجاز جديده. ميزانية مضحكة بمعايير هوليوود، إلا أنّ عبارة تيري زويغوف الذهبيّة تعبير مثالي عن هذا الشريط المدهش: «سيناريو جيّد، وكاستنغ صحيح يعني 90% من العمل». الـ 10% المتبقيّة هي إخراج ماكدونا العميق وغير المتكلّف في آن.
في فيلمه السابق «سبعة سايكوباثيّون» (2012)، تعلّم السينمائي اللندني أنّ الاستعراض الإخراجي الزائد عبء وعيب، مع النتيجة المتوسطة التي خرج عليها. لم يكن تطوّراً إيجابياً عن باكورته الجميلة في الروائي الطويل «في بروج» (2008). أدرك أنّ القوّة تكمن في البساطة، والتخديم على الدراما، بعيداً عن الزخرفة والتحذلق. موسم الجوائز لم يشح بوجهه، كما فعل مع «قتل غزال مقدّس» ليورغوس لانثيموس، و«آخر علم يرفرف» لريتشارد لينكلاتر. جاء كريماً بـ 7 ترشيحات أوسكار ضمن الفئات الكبيرة، و4 جوائز غولدن غلوبز، و5 بافتا وغيرها...
لنقفز إلى الفيلم نفسه. «ملدريد» (فرانسيس مكدورماند) أمّ تنشد العدالة في قضية اغتصاب وقتل ابنتها، إثر فشل التحقيقات في الوصول إلى المجرم. تتحدّى الشرطة المتمثّلة برئيسها «ويلوبي» (وودي هارلسون) وأحد أفرادها «ديكسون» (سام روكويل)، باستئجار ثلاث لوحات إعلانيّة شبه مهجورة، وكتابة استفسار علنيّ صادم عليها. الأوّل رجل عائلة ودود، يحظى باحترام الجميع. الثاني عنصريّ أرعن، يمثّل كل ما يجب ألا يكون عليه رجل القانون. لا ننسى أنّنا في بلدة نائية، حيث الجميع يعرف الجميع. هكذا، يبدأ مسار يبدو للوهلة الأولى صعب التصعيد والتعقيد. غير أنّ ورق ماكدونا ماكر أكثر ممّا يمكن لأحد أن يتخيّل، مهما وضع من احتمالات. عدم القدرة على التوقع من صفات السيناريو الرفيع، وهو ما يتجلّى بأفضل شكل ممكن.

تناغم لافت بين طرافة مظلمة، وعنف لفظيّ وجسديّ

الأسباب عديدة. أغلب الشخوص جاثمة على إرث متراكم من شعور بالذنب، وغضب داخليّ مكبوت تجاه أمور مختلفة. هذا يجعلها تتخّذ قرارات صادمة وعجيبة، لكنّها مفهومة ومقنعة بشكل غريب. يُضاف إلى ذلك تنوّعها الفكري والعرقي وحتى الشكلي، في إبراز مقصود لشتى أشكال الاختلاف. ارتباطها بشبكة شائكة وخصبة من العلاقات القابلة للتفجير أو الإخماد. غناها الجوّاني. مراوحتها السلسة بين مشاعر ومواقف متباينة في وقت واحد. كل ذلك مغلّف بحوار أقل ما يُقال فيه أنّه قنبلة موقوتة من العبقريّة. تناغم لافت بين طرافة مظلمة، وعنف لفظيّ وجسديّ. ديالوغ لا يتورّع عن تسمية ما يتجنّب كثيرون ذكره مباشرةً. مكاشفات «وقحة» على مدى ساعتين، ضمن مجتمع عفويّ، غرائزي، قطيعيّ، بلا غطاء. عنصريّة متأصّلة. عنف معتاد. هشاشة بناء الفرد والعقد الاجتماعي برمّته. إستابلشمنت متهالك يولّد أخطر ما يمكن داخل الفرد: الغضب الأعمى.
لطالما حضرت بعض هذه الأسباب في سينما مارتن ماكدونا، الذي يراوح عادةً بين سكورسيزي وتارانتينو ولينش وديفيد ماميت. هنا، يحلّق خارج كلّ شيء. يجترح بداية جديدة. ينحاز للطبيعة البشريّة من دون تجميل. ينهل من خلفيته المسرحيّة الرفيعة، في قول الكثير بلا تلقين أو مباشرة. يبلسم الجراح بالانتصار لجمال شخصياته في أصفى حالاتها. ثمّة تقدير رقيق للضعف والهشاشة، مع تراكم خلّاب نحو الخلاص والتطهير. «العبرة في الرحلة» كما يُقال عن ذلك التفاعل المعقد داخل النفس البشريّة، عن قوّة الحب في وجه الغضب واليأس، عن الاختلاف والتقبّل، عن الإنسان الهش الذي لا يدرك أنّ نواة قوّته تكمن في مواطن ضعفه. الأجمل أنّ هذا «الباكج» بكلّ ما فيه من شخوص وتفرّعات عن الحكاية الرئيسة، لا ينزلق من كفّي ماكدونا. بدراية مذهلة، يبقى ممسكاً بإيقاع صعب ومرهق ودقيق للغاية.
سينال «ثلاث لوحات إعلانيّة خارج إيبنغ، ميسوري» تقديراً أوسكارياً مستحقاً عن السيناريو الأصلي لماكدونا، وأفضل ممثّلة لمكدورماند (لا منازع لها في هذه الفئة)، وأفضل ممثّل في دور ثانٍ لروكويل. هذا الأخير «فدائي» راقص. ألقى بنفسه في أفلام مستقلّة عديدة، بقي بعضها مجهولاً. دوره في «موون» (2009) لدنكان جونز، لا يُنسى بالفعل. يتنافس على التمثال مع وودي هارلسون، الذي يثبت دائماً أنّه خلق ليمثّل.
في المحصلة، هذا شريط العام، بالتجاور مع «شكل المياه» لغييرمو ديل تورو، بل إنّه أفضل، وأكثر حميميةً وقرباً. عميق في بساطته. حاد في رهافته. مظلم في سخريته. حارق في عذوبته. متعدد في مستويات إحالته. طازج وطويل الأمد في تأثيره، وهذا من جوهر السينما الرفيعة.

Three Billboards Outside Ebbing, Missouri: صالات «أمبير» (1269)، «غراند سينما» (01/209109)، «فوكس» (01/285582)، «سينما سيتي» (01995195)