لم يأتِ علي رضا شجاعيان (1988) زوّاره سكاكينَ ليلة افتتاح معرضه الفردي الثاني «كفر حلو». دعاهم فقط إلى اختبار الجمال الذي رآه وهو يرسم لوحاته. كأنه يمنحهم عينيه لمشاهدة موديله مو خنسا وهو يتخذ وضعية إحدى اللوحات، لثلاث ساعات متواصلة. تمدَّد المؤدي والراقص عارياً، وقد لف وسطه بغطاء أبيض داخل غرفة سوداء. مغمض العينين.
عاجزاً عن الإجابة على المتفرجين أو التفاعل معهم. يحيلنا عرض الأداء إلى الفخ الجمالي الذي أوقعت فيه زليخة نساء مصر، وهو أيضاً محاكاة لأحد فصول رواية «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية إليف شفاق: «العدم: الأشياء الموجودة من خلال غيابها».
وقد كانت الطريقة التي اختارها الفنان الإيراني الشاب لتقريب لوحته وموضوعها إلى المتفرج عبر إشراكه في عملية الرؤية الأولى، وفي الشعور مع المادّة المرسومة. لكن اللوحات الثماني بمجملها في «غاليري آرت لاب» (الجميزة ــ بيروت) تمنحنا هذا الانطباع بفضل الأسلوب الذي اعتمده شجاعيان. في بورتريهاته الثمانية، استخدم ألواناً رصاصية وأكريليك على ألواح خشبية. باستثناء الأخضر لأوراق النباتات، لا نكاد نرى ألواناً في اللوحات سوى الأبيض والأسود. خطوط خفيفة وضعت بعناية على اللوحة، لتفرج عن شاب يتخذ وضعيات مختلفة. في البورتريه الذي يتصدر واجهة الغاليري، يقف الشاب عاري الصدر يلف الجزء السفلي من جسده بغطاء أبيض، بينما يضع تاجاً على رأسه. أما اللوحة التي استند إليها عرض الأداء، فيتمدد الشخص على غطاء أبيض. تكتنز لوحات شجاعيان إحالات ورموزاً دينية وتاريخية وأسطورية كثيرة، ليذكّرنا هذا الاستلقاء بلوحة «رقاد المسيح» (1480) للإيطالي أندريا مانتينيا.

يشدّد الفنان على الجانب
السياسي للوحاته في مناصرة حقوق هذه الشريحة


يرسم شجاعيان أيقوناته بأسلوب تقليدي وواقعي لقول هذا الحب المثلي. وعلى خطى الأيقونات القديمة، رسم الجسد بتفاصيله على ألواح خشبية. الكتفان والرأس والشعر واللحية والصدر. لم يتدخّل شجاعيان بالوضعيات التي اتخذها خنسا قبل تصويره ورسمه. هناك، في دفق تفاصيل الجسد ونقله بواقعيته، إشهار ما. دعوة إلى تلمّسه في تجربة شبه حسية. محاولة للاحتفاظ به، أو بحفظ لحظات الافتتان بجمالية الجسد الذكري خلال عملية الرسم نفسها. لكن وضعياته الجمالية من جهة، تذهب إلى ما هو أبعد من الحضور المادي نفسه، ولا تنقاد إلى تجسيد مباشر للحب. هناك حالات شعورية داخلية صارخة تظهر في الأعمال، تلامس ما هو أعلى في هذه العلاقة وما يثقلها في الوقت نفسه.
كما في بورتريه «الأرض: الأشياء التي تكون صلبة، متشربة، وساكنة»، التي يظهر فيها الجسد مرخياً على حافّة اسمنتية، فيما تظلله ستة أوراق شجر (تحيل إلى سلّم تقييم الغيرية ــ المثلية لعالم الأحياء الأميركي ألفرد كينسي، الذي تشير فيه الدرجة 6 إلى المثلية الجنسية). أما لوحتا «النار الأشياء التي تدمّر وتحطّم»، و«الريح الأشياء التي تتحرّك، تتطوّر، وتتحدّى»، اللتان نرى فيهما شخصاً آخر، فما يبدو عناقاً أو محاولة متعذّرة للعناق، يذكرنا بعلاقة متضاربة بين العنف والرأفة كما في علاقة جلجلمش وأنكيدو. هكذا تعبر اللوحات عن الحب بحالاته اللامتناهية، بما فيها الفراق والتأجج، والغياب واللين والقسوة، بالإضافة إلى الضيق الذي تسببه الهوية الجنسية المثلية في هذه البقعة من الأرض. غير أن العبارات المقتبسة من رواية شفق تقيدّ اللوحات بعض الشيء وتعطي إحالات مباشرة ومختزلة أحياناً لما يمكن أن تبلغه اللوحة. قد يكون سبب ذلك رغبة الفنان في استحضار تجارب من التاريخ الإسلامي، متمثلة في العلاقة اللغز بين شمس التبريزي ومولانا جلال الدين الرومي الذي انجرف إلى الشعر بعد لقائهما. لكن لوحاته تقوم بهذا تلقائياً، محاكية التاريخ الشعري والفني المحلي للمثلية في العصر الإسلامي: من قصائد أبي نواس، إلى قبلة الحارث وأبي زيد على ناقيتين، في رسم ليحيى بن محمود الواسطي (1237) داخل «مقامات الحريري» لمحمد الحريري البصري.
من الضروري التذكير بهذا التاريخ الذي طمرته أفكار الاستعمار البيضاء المتزمتة دينياً، خصوصاً ما فعله الاستعمار الفرنسي في المغرب التي لم يبطل فيها القانون الداخلي المجرّم للمثلية إلا سنة 1982. في المعرض، ستبدو معاناة المثليين المعاصرة، أكثر نفوراً أمام التنوّع الجنسي والحب الأشمل الذي كان ينضح به التاريخ المشرقي. إذا كان من مهمة للوحات شجاعيان، فهي حفظ المعاناة وتوثيقها كما يقول، لهذا يشدّد على الجانب السياسي للوحاته في مناصرة حقوق المثليين.
قبل أعوام، وفي سنته الجامعية الثانية في طهران، توقّف الفنان الشاب عن الرسم. كانت تفصله عن لوحته مئات الستائر والحواجز، أولها استحالة التعبير عن مثليته، وتجربته الفردية والحميمية. هناك، أتيح له التعرّف إلى صاحب الغاليري أنطوان حدّاد الذي دعاه العام الماضي إلى إقامة معرضه الفردي الأوّل Corps-à-corps. وفيه، حاول أن يعيد رسم بعض صور الأميركي روبرت مابلثورب التي التقطها لشبان مثليين. هذا السعي إلى ترسيخ الهويات المغايرة والتكلم بصوت المثليين لم يتوقف في بيروت رغم هامش الحرية النسبي هنا. صحيح أن أمر العرض في طهران، يعدّ مستحيلاً من دون الملاحقة القانونية والاعتقال، لكن برأي شجاعيان فإن الألم واحد أكان في بيروت أو في طهران. بعد إقامته لأكثر من عام في العاصمة اللبنانية، يقيم اليوم معرضه الذي يصر على إدراجه ضمن الفن المثلي Queer Art. وقد وفّق فيه، تلك المعادلة في فنه، كنشاط سياسي في قضية المثليين في العالم العربي والشرق الأوسط، والحفاظ على طراوة اللوحة وحميميتها، الناتجة في النهاية من تجربة شخصية.

«كفر حلو»: حتى 24 شباط (فبراير) الحالي ــ «غاليري آرت لاب» (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: 03/244577